( وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين )
قوله تعالى : ( وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) [ ص: 72 ] اعلم أن قوله : ( وبينهما حجاب ) يعني بين الجنة والنار أو بين الفريقين ، وهذا الحجاب هو المشهور المذكور في قوله : ( فضرب بينهم بسور له باب ) [الحديد : 13] .
فإن قيل : وأي حاجة إلى ضرب هذا السور بين الجنة والنار ، وقد ثبت أن الجنة فوق السماوات, وأن الجحيم في أسفل السافلين ؟
قلنا : بعد إحداهما عن الأخرى لا يمنع أن يحصل بينهما سور وحجاب ، وأما الأعراف فهو جمع عرف وهو كل مكان عال مرتفع ، ومنه عرف الفرس وعرف الديك ، وكل مرتفع من الأرض عرف ؛ وذلك لأنه بسبب ارتفاعه يصير أعرف مما انخفض منه .
إذا عرفت هذا فنقول : في قولان : تفسير لفظ الأعراف
القول الأول : وهو الذي عليه الأكثرون أن المراد من الأعراف أعالي ذلك السور المضروب بين الجنة والنار ، وهذا قول . وروي عنه أيضا أنه قال : الأعراف شرف الصراط . ابن عباس
والقول الثاني : وهو قول الحسن وقول الزجاج : في أحد قوليه أن قوله : ( وعلى الأعراف ) أي : وعلى معرفة أهل الجنة والنار رجال يعرفون كل أحد من أهل الجنة والنار بسيماهم . فقيل للحسن : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ؟ فضرب على فخذيه ثم قال : هم قوم جعلهم الله تعالى على تعرف أهل الجنة وأهل النار, يميزون البعض من البعض ، والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا .
أما القائلون بالقول الأول فقد اختلفوا في أن الذين هم على الأعراف من هم ؟ ولقد كثرت الأقوال فيهم وهي محصورة في قولين :
أحدهما : أن يقال : إنهم الأشراف من أهل الطاعة وأهل الثواب .
الثاني : أن يقال : إنهم أقوام يكونون في الدرجة السافلة من أهل الثواب .
أما على التقدير الأول ففيه وجوه :
أحدها : قال أبو مجلز . هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار ، فقيل له : يقول الله تعالى : ( وعلى الأعراف رجال ) وتزعم أنهم ملائكة ؟ فقال : الملائكة ذكور لا إناث .
ولقائل أن يقول : الوصف بالرجولية إنما يحسن في الموضع الذي يحصل في مقابلة الرجل من يكون أنثى ، ولما امتنع كون الملك أنثى امتنع وصفهم بالرجولية .
وثانيها : قالوا : إنهم الأنبياء عليهم السلام أجلسهم الله تعالى على أعالي ذلك السور تمييزا لهم عن سائر أهل القيامة ، وإظهارا لشرفهم ، وعلو مرتبتهم وأجلسهم على ذلك المكان العالي ليكونوا مشرفين على أهل الجنة ، وأهل النار مطلعين على أحوالهم ومقادير ثوابهم وعقابهم .
وثالثها : قالوا : إنهم هم الشهداء ؛ لأنه تعالى وصف أصحاب الأعراف بأنهم يعرفون كل واحد من أهل الجنة وأهل النار .
ثم قال قوم : إنهم يعرفون أهل الجنة بكون وجوههم ضاحكة مستبشرة ، وأهل النار بسواد وجوههم وزرقة عيونهم ، وهذا الوجه باطل ؛ لأنه تعالى خص أهل الأعراف بأنهم يعرفون كل واحد من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم ، ولو كان المراد ما ذكروه لما بقي لأهل الأعراف اختصاص بهذه المعرفة ؛ لأن كل أحد من أهل الجنة ومن أهل النار يعرفون هذه الأحوال من أهل الجنة ومن أهل النار ، ولما بطل هذا الوجه ثبت أن المراد بقوله : ( يعرفون كلا بسيماهم ) هو أنهم كانوا يعرفون في الدنيا أهل الخير والإيمان والصلاح ، وأهل الشر والكفر والفساد . وهم كانوا في الدنيا شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية ، فهو تعالى يجلسهم على الأعراف -وهي الأمكنة العالية الرفيعة- ليكونوا مطلعين على الكل [ ص: 73 ] يشهدون على كل أحد بما يليق به ، ويعرفون أن أهل الثواب وصلوا إلى الدرجات ، وأهل العقاب إلى الدركات .
فإن قيل : هذه الوجوه الثلاثة باطلة ؛ لأنه تعالى قال في صفة أصحاب الأعراف أنهم ( لم يدخلوها وهم يطمعون ) أي : لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها ، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء ، والملائكة والشهداء .
أجاب الذاهبون إلى هذا الوجه بأن قالوا : لا يبعد أن يقال : إنه تعالى بين من صفات أصحاب الأعراف أن دخولهم الجنة يتأخر ، والسبب فيه أنه تعالى ميزهم عن أهل الجنة وأهل النار ، وأجلسهم على تلك الشرفات العالية والأمكنة المرتفعة ليشاهدوا أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار فيلحقهم السرور العظيم بمشاهدة تلك الأحوال ، ثم إذا استقر أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، فحينئذ ينقلهم الله تعالى إلى أمكنتهم العالية في الجنة ، فثبت أن كونهم غير داخلين في الجنة لا يمنع من كمال شرفهم وعلو درجتهم . وأما قوله : ( وهم يطمعون ) فالمراد من هذا الطمع اليقين . ألا ترى أنه تعالى قال حكاية عن إبراهيم عليه السلام : ( والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) [الشعراء : 82] وذلك الطمع كان طمع يقين ، فكذا ههنا . فهذا تقرير قول من يقول : إن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل الجنة .
والقول الثاني : وهو قول من يقول : أصحاب الأعراف أقوام يكونون في الدرجة النازلة من أهل الثواب ، والقائلون بهذا القول ذكروا وجوها :
أحدها : أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فلا جرم ما كانوا من أهل الجنة ولا من أهل النار, فأوقفهم الله تعالى على هذه الأعراف ؛ لكونها درجة متوسطة بين الجنة وبين النار . ثم يدخلهم الله تعالى الجنة بفضله ورحمته وهم آخر قوم يدخلون الجنة ، وهذا قول حذيفة رضي الله عنهما واختيار وابن مسعود الفراء .
وطعن الجبائي والقاضي في هذا القول . واحتجوا على فساده بوجهين :
الأول : أن قالوا : أن قوله تعالى : ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) يدل على أن كل من دخل الجنة فإنه لا بد وأن يكون مستحقا لدخولها ، وذلك يمنع من القول بوجود أقوام لا يستحقون الجنة ولا النار ، ثم إنهم يدخلون الجنة بمحض التفضل لا بسبب الاستحقاق .
وثانيهما : أن كونهم من أصحاب الأعراف يدل على أنه تعالى ميزهم من جميع أهل القيامة بأن أجلسهم على الأماكن العالية المشرفة على أهل الجنة وأهل النار ، وذلك تشريف عظيم ، ومثل هذا التشريف لا يليق إلا بالأشراف, ولا شك أن الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فدرجتهم قاصرة ، فلا يليق بهم ذلك التشريف .
والجواب عن الأول : أنه يحتمل أن يكون قوله : ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها ) خطابا مع قوم معينين ، فلم يلزم أن يكون لكل أهل الجنة كذلك .
والجواب عن الثاني : أنا لا نسلم أنه تعالى أجلسهم على تلك المواضع على سبيل التخصيص بمزيد التشريف والإكرام ، وإنما أجلسهم عليها ؛ لأنها كالمرتبة المتوسطة بين الجنة والنار ، وهل النزاع إلا في ذلك ؟ فثبت أن الحجة التي عولوا عليها في إبطال هذا الوجه ضعيفة .