قوله تعالى : ( أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين ) .
اعلم أن قوله : ( أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ) يدل على أن مراد القوم من قولهم لنوح عليه السلام : ( إنا لنراك في ضلال مبين ) هو أنهم نسبوه في ادعاء النبوة إلى الضلال ، وذلك من وجوه :
أحدها : أنهم استبعدوا أن يكون لله رسول إلى خلقه ، لأجل أنهم اعتقدوا أن المقصود من [ ص: 124 ] الإرسال هو التكليف ، والتكليف لا منفعة فيه للمعبود ؛ لكونه متعاليا عن النفع والضرر ، ولا منفعة فيه للعابد ؛ لأنه في الحال يوجب المضرة العظيمة ، وكل ما يرجى فيه من الثواب ودفع العقاب ، فالله قادر على تحصيله بدون واسطة التكليف ، فيكون التكليف عبثا ، والله متعال عن العبث ، وإذا بطل التكليف بطل القول بالنبوة .
وثانيها : أنهم وإن جوزوا التكليف إلا أنهم قالوا : ما علم حسنه بالعقل فعلناه ، وما علم قبحه تركناه ، وما لا نعلم فيه لا حسنه ولا قبحه ، فإن كنا مضطرين إليه فعلناه ؛ لعلمنا أنه متعال عن أن يكلف عبده ما لا طاقة له به ، وإن لم نكن مضطرين إليه تركناه ؛ للحذر عن خطر العقاب ، ولما كان رسول العقل كافيا فلا حاجة إلى بعثة رسول آخر .
وثالثها : أن بتقدير أنه لا بد من الرسول فإن إرسال الملائكة أولى ؛ لأن مهابتهم أشد ، وطهاراتهم أكمل ، واستغناءهم عن المأكول والمشروب أظهر ، وبعدهم عن الكذب والباطل أعظم .
ورابعها : أن بتقدير أن يبعث رسولا من البشر ، فلعل القوم اعتقدوا أن من كان فقيرا ، ولم يكن له تبع ورياسة فإنه لا يليق به منصب الرسالة ، ولعلهم اعتقدوا أن الذي ظن نوح عليه السلام أنه من باب الوحي فهو من جنس الجنون والعته وتخييلات الشيطان ، فهذا هو الإشارة إلى مجامع الوجوه التي لأجلها أنكر الكفار رسالة رجل معين ؛ فلهذه الأسباب حكموا على نوح بالضلالة ، ثم إن نوحا عليه السلام أزال تعجبهم وقال : إنه تعالى خالق الخلق ، فله بحكم الإلهية أن يأمر عبيده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها ، ولا يجوز أن يخاطبهم بتلك التكاليف من غير واسطة ؛ لأن ذلك ينتهي إلى حد الإلجاء ، وهو ينافي التكليف ، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسول واحدا من الملائكة ؛ لما ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى : ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) [ الأنعام : 9 ] فبقي أن يكون إيصال تلك التكاليف إلى الخلق بواسطة إنسان ، وذلك الإنسان إنما يبلغهم تلك التكاليف لأجل أن ينذرهم ويحذرهم ، ومتى أنذرهم اتقوا مخالفة تكليف الله ، ومتى اتقوا مخالفة تكليف الله استوجبوا رحمة الله ، فهذا هو المراد من قوله : ( لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ) .
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية .
أما قوله : ( أوعجبتم ) فالهمزة للإنكار ، والواو للعطف ، والمعطوف عليه محذوف ، كأنه قيل : أكذبتم وعجبتم أن جاءكم ؟ أي عجبتم أن جاءكم ذكر . وذكروا في تفسير هذا الذكر وجوها :
قال الحسن : إنه الوحي الذي جاءهم به . وقال آخرون : المراد بهذا الذكر المعجز ، ثم ذلك المعجز يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه تعالى كان قد أنزل عليه كتابا ، وكان ذلك الكتاب معجزا ، فسماه الله تعالى ذكرا ، كما سمى القرآن بهذا الاسم ، وجعله معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أن ذلك المعجز كان شيئا آخر سوى الكتاب .
وقوله : ( على رجل ) قال الفراء : " على " مههنا بمعنى " مع " كما تقول : جاء بالخبر على وجهه ومع وجهه ، كلاهما جائز . وقال : أي على لسان رجل منكم ، كما قال ( ابن قتيبة ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ) [ آل عمران : 194 ] أي على لسان رسلك . وقال آخرون : ( ذكر من ربكم ) منزل على رجل ، وقوله : ( منكم ) أي تعرفون نسبه فهو منكم نسبا ، وذلك لأن كونه منهم يزيل التعجب ؛ لأن المرء بمن هو من جنسه أعرف ، وبطهارة أحواله أعلم ، وبما يقتضي السكون إليه أبصر ، ثم بين تعالى ، فقال : ( ما لأجله يبعث الرسول لينذركم ) ؛ وما لأجله ينذر ، فقال : ( ولتتقوا ) ؛ وما لأجله يتقون ، فقال : ( ولعلكم ترحمون ) وهذا الترتيب في غاية الحسن ، فإن المقصود من البعثة الإنذار ، والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي ، والمقصود من التقوى الفوز بالرحمة في [ ص: 125 ] دار الآخرة . قال الجبائي والكعبي والقاضي : هذه الآية دالة على أنه تعالى أراد من الذين بعث الرسل إليهم التقوى والفوز بالرحمة ، وذلك يبطل قول من يقول : إنه تعالى أراد من بعضهم الكفر والعناد ، وخلقهم لأجل العذاب والنار .
وجواب أصحابنا أن نقول : إن لم يتوقف الفعل على الداعي لزم رجحان الممكن لا لمرجح ، وإن توقف لزم الجبر ، ومتى لزم ذلك وجب القطع بأنه تعالى أراد الكفر من الكافر ، وذلك يبطل مذهبكم . ثم بين تعالى أنهم مع ذلك كذبوه في ادعاء النبوة وتبليغ التكاليف من الله وأصروا على ذلك التكذيب ، ثم إنه تعالى أنجاه في الفلك وأنجى من كان معه من المؤمنين وأغرق الكفار والمكذبين . وبين العلة في ذلك فقال : ( إنهم كانوا قوما عمين ) قال : عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد ، قال أهل اللغة : يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر ، قال تعالى : ( ابن عباس فعميت عليهم الأنباء يومئذ ) [ القصص : 66 ] وقال : ( قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ) [ الأنعام : 104 ] قال زهير :
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي
قال صاحب " الكشاف " : قرئ " عامين " والفرق بين العمي والعامي أن العمي يدل على عمى ثابت ، والعامي على عمى حادث ، ولا شك أن عماهم كان ثابتا راسخا ، والدليل عليه قوله تعالى في آية أخرى : ( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) [ هود : 36 ] .