وأما قوله : ( ونزع يده ) عبارة عن إخراج الشيء عن مكانه ، فقوله : " نزع يده " أي أخرجها من جيبه أو من جناحه ، بدليل قوله تعالى : ( فالنزع في اللغة وأدخل يدك في جيبك ) [ النمل : 12 ] وقوله : ( واضمم يدك ) [ ص: 160 ] ( إلى جناحك ) [ طه : 22 ] وقوله : ( فإذا هي بيضاء للناظرين ) قال : وكان لها نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض . ابن عباس
واعلم أنه لما كان البياض كالعيب بين الله تعالى في غير هذه الآية أنه كان من غير سوء .
فإن قيل : بم يتعلق قوله : ( للناظرين ) .
قلنا : يتعلق بقوله : ( بيضاء ) والمعنى : فإذا هي بيضاء للنظارة ، ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضا عجيبا خارجا عن العادة يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب . وبقي ههنا مباحث :
فأولها : أن من كم وجه يدل على المعجز ؟ . انقلاب العصا ثعبانا
والثاني : أن هذا المعجز كان أعظم أم اليد البيضاء ؟ وقد استقصينا الكلام في هذين المطلوبين في سورة طه .
والثالث : أن المعجز الواحد كان كافيا ، فالجمع بينهما كان عبثا .
وجوابه : أن كثرة الدلائل توجب القوة في اليقين وزوال الشك ، ومن الملحدين من قال : المراد بالثعبان وباليد البيضاء شيء واحد ، وهو أن حجة موسى عليه السلام كانت قوية ظاهرة قاهرة ، فتلك الحجة من حيث إنها أبطلت أقوال المخالفين ، وأظهرت فسادها ، كانت كالثعبان العظيم الذي يتلقف حجج المبطلين ، ومن حيث كانت ظاهرة في نفسها وصفت باليد البيضاء ، كما يقال في العرف : لفلان يد بيضاء في العلم الفلاني ، أي قوة كاملة ، ومرتبة ظاهرة .
واعلم أن حمل هذين المعجزين على هذا الوجه يجري مجرى دفع التواتر وتكذيب الله ورسوله . ولما بينا أن انقلاب العصا حية أمر ممكن في نفسه ، فأي حامل يحملنا على المصير إلى هذا التأويل ؟ ولما ذكر الله تعالى أن موسى عليه السلام أظهر هذين النوعين من المعجزات . حكي عن قوم فرعون أنهم قالوا : ( إن هذا لساحر عليم ) وذلك لأن السحر كان غالبا في ذلك الزمان ، ولا شك أن مراتب السحرة كانت متفاضلة متفاوتة ، ولا شك أنه يحصل فيهم من يكون غاية في ذلك العلم ونهاية فيه . فالقوم زعموا أن موسى عليه السلام لكونه في النهاية من علم السحر أتى بتلك الصفة ، ثم ذكروا أنه إنما أتى بذلك السحر لكونه طالبا للملك والرياسة .
فإن قيل : قوله : ( إن هذا لساحر عليم ) حكاه الله تعالى في سورة الشعراء أنه قاله فرعون لقومه ، وحكى ههنا أن قوم فرعون قالوه ، فكيف الجمع بينهما ؟ وجوابه من وجهين :
الأول : لا يمتنع أنه قد قاله هو وقالوه هم ، فحكى الله تعالى قوله ثم وقولهم ههنا .
والثاني : لعل فرعون قاله ابتداء فتلقته الملأ منه ، فقالوه لغيره أو قالوه عنه لسائر الناس على طريق التبليغ ، فإن الملوك إذا رأوا رأيا ذكروه للخاصة وهم يذكرونه للعامة ، فكذا ههنا .
وأما قوله : ( فماذا تأمرون ) فقد ذكر الزجاج فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أن كلام الملأ من قوم فرعون تم عند قوله : ( يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره ) ثم عند هذا الكلام قال فرعون مجيبا لهم : ( فماذا تأمرون ) واحتجوا على صحة هذا القول بوجهين :
أحدهما : أن قوله : ( فماذا تأمرون ) خطاب للجمع لا للواحد ، فيجب أن يكون هذا كلام فرعون للقوم ، أما لو جعلناه كلام القوم مع فرعون لكانوا قد خاطبوه بخطاب الواحد لا بخطاب الجمع .
وأجيب عنه : بأنه يجوز أن يكونوا خاطبوه بخطاب الجمع تفخيما لشأنه ؛ لأن العظيم إنما يكنى عنه بكناية الجمع كما في قوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر ) [ الحجر : 9 ] ( إنا أرسلنا نوحا ) [ نوح : 1 ] [ ص: 161 ] ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [ القدر : 1 ] .
والحجة الثانية : أنه تعالى لما ذكر قوله : ( فماذا تأمرون ) قال بعده : ( قالوا أرجه ) ولا شك أن هذا كلام القوم ، وجعله جوابا عن قولهم : ( فماذا تأمرون ) فوجب أن يكون القائل لقوله : ( فماذا تأمرون ) غير الذي قالوا : أرجه ، وذلك يدل على أن قوله : ( فماذا تأمرون ) كلام لغير الملأ من قوم فرعون .
وأجيب عنه : بأنه لا يبعد أن القوم قالوا : ( إن هذا لساحر عليم ) ثم قالوا لفرعون ولأكابر خدمه ( فماذا تأمرون ) ثم أتبعوه بقولهم : ( أرجه وأخاه ) فإن الخدم والأتباع يفوضون الأمر والنهي إلى المخدوم والمتبوع أولا ، ثم يذكرون ما حضر في خواطرهم من المصلحة .
والقول الثاني : أن قوله : ( فماذا تأمرون ) من بقية كلام القوم ، واحتجوا عليه بوجهين :
الأول : أنه منسوق على كلام القوم من غير فاصل ، فوجب أن يكون ذلك من بقية كلامهم .
والثاني : أن الرتبة معتبرة في الأمر ، فوجب أن يكون قوله : ( فماذا تأمرون ) خطابا من الأدنى مع الأعلى ، وذلك يوجب أن يكون هذا من بقية كلام فرعون معه .
وأجيب عن هذا الثاني بأن الرئيس المخدوم قد يقول للجمع الحاضر عنده من رهطه ورعيته : ماذا تأمرون ؟ ويكون غرضه منه تطييب قلوبهم وإدخال السرور في صدورهم وأن يظهر من نفسه كونه معظما لهم ومعتقدا فيهم ، ثم إن القائلين بأن هذا من بقية كلام قوم فرعون ذكروا وجهين :
أحدهما : أن المخاطب بهذا الخطاب هو فرعون وحده ، فإنه يقال للرئيس المطاع : ما ترون في هذه الواقعة ؛ أي ما ترى أنت وحدك ، والمقصود أنك وحدك قائم مقام الجماعة ، والغرض منه التنبيه على كماله ورفعة شأنه وحاله .
والثاني : أن يكون المخاطب بهذا الخطاب هو فرعون وأكابر دولته وعظماء حضرته ؛ لأنهم هم المستقلون بالأمر والنهي ، والله أعلم .