[ ص: 8 ] ( ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين )
قوله تعالى :( ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين )
اعلم أنهم اتفقوا على أن المراد من قوله :( سقط في أيديهم ) أنه اشتد واختلفوا في الوجه الذي لأجله حسنت هذه الاستعارة . ندمهم على عبادة العجل
فالوجه الأول : قال الزجاج : معناه سقط الندم في أيديهم ، أي في قلوبهم كما يقال حصل في يديه مكروه ، وإن كان من المحال حصول المكروه الواقع في اليد ، إلا أنهم أطلقوا على المكروه الواقع في القلب والنفس كونه واقعا في اليد ، فكذا ههنا .
والوجه الثاني : قال صاحب ( الكشاف ) : إنما يقال لمن ندم سقط في يده لأن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده غما ، فيصير ندمه مسقوطا فيها ، لأن فاه قد وقع فيها .
والوجه الثالث : أن السقوط عبارة عن نزول الشيء من أعلى إلى أسفل ، ولهذا قالوا سقط المطر ، ويقال : سقط من يدك شيء ، وأسقطت المرأة ، فمن أقدم على عمل فهو إنما يقدم عليه لاعتقاده أن ذلك العمل خير وصواب ، وأن ذلك العمل يورثه شرفا ورفعة ، فإذا بان له أن ذلك العمل كان باطلا فاسدا فكأنه قد انحط من الأعلى إلى الأسفل ، وسقط من فوق إلى تحت ، فلهذا السبب يقال للرجل إذا أخطأ : كان ذلك منه سقطة ، شبهوا ذلك بالسقطة على الأرض ، فثبت أن إطلاق لفظ السقوط على الحالة الحاصلة عند الندم جائز مستحسن ، بقي أن يقال : فما الفائدة في ذكر اليد ؟ فنقول : اليد هي الآلة التي بها يقدر الإنسان على الأخذ والضبط والحفظ ، فالنادم كأنه يتدارك الحالة التي لأجلها حصل له الندم ويشتغل بتلافيها ، فكأنه قد سقط في يد نفسه من حيث أنه بعد حصول ذلك الندم اشتغل بالتدارك والتلافي .
والوجه الرابع : حكى الواحدي عن بعضهم : أن هذا مأخوذ من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج . يقال منه : سقطت الأرض ، كما يقال من الثلج : ثلجت الأرض وثلجنا أي أصابها الثلج ، ومعنى سقط في يده أي وقع في يده السقيط ، والسقيط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى ، فمن وقع في يده السقيط لم يحصل منه على شيء قط فصار هذا مثلا لكل من خسر في عاقبته ولم يحصل من سعيه على طائل ، وكانت الندامة آخر أمره .
والوجه الخامس : قال بعض العلماء : النادم إنما يقال له : سقط في يده ، لأنه يتحير في أمره ويعجز عن أعماله ، والآلة الأصلية في الأعمال في أكثر الأمر هي اليد . والعاجز في حكم الساقط ، فلما قرن السقوط بالأيدي علم أن السقوط في اليد إنما حصل بسبب العجز التام ، ويقال في العرف لمن لا يهتدي لما يصنع : ضلت يده ورجله .
[ ص: 9 ] والوجه السادس : أن من عادة النادم أن يطأطئ رأسه ويضعه على يده معتمدا عليه ، وتارة يضعها تحت ذقنه وشطر من وجهه على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه فكانت اليد مسقوطا فيها لتمكن السقوط فيها ، ويكون قوله : سقط في أيديهم بمعنى سقط على أيديهم ، كقوله :( ولأصلبنكم في جذوع النخل ) [طه : 71 ] أي عليها ، والله أعلم .
ثم قال تعالى :( ورأوا أنهم قد ضلوا ) أي قد تبينوا ضلالهم تبيينا كأنهم أبصروه بعيونهم ، قال القاضي : يجب أن يكون المؤخر مقدما ؛ لأن الندم والتحير إنما يقعان بعد المعرفة فكأنه تعالى قال : ولما رأوا أنهم قد ضلوا سقط في أيديهم لما نالهم من عظيم الحسرة ، ويمكن أن يقال : إنه لا حاجة إلى هذا التقديم والتأخير ، وذلك لأن الإنسان إذا صار شاكا في أن العمل الذي أقدم عليه هل هو صواب أو خطأ ؟ فقد يندم عليه من حيث إن الإقدام على ما لا يعلم كونه صوابا أو خطأ فاسدا أو باطلا غير جائز ، فعند ظهور هذه الحالة يحصل الندم ، ثم بعد ذلك يتكامل العلم ويظهر أنه كان خطأ وفاسدا وباطلا فثبت أن على هذا التقدير لا حاجة إلى التزام التقديم والتأخير . ثم بين تعالى أنهم عند ظهور هذا الندم ، وحصول العلم بأن الذي عملوه كان باطلا أظهروا الانقطاع إلى الله تعالى فقالوا( لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ) وهذا كلام من اعترف بعظيم ما أقدم عليه وندم على ما صدر منه ورغب إلى ربه في إقالة عثرته ، ثم صدقوا على أنفسهم كونهم من الخاسرين إن لم يغفر الله لهم ، وهذا الندم والاستغفار إنما حصل بعد رجوع موسى - عليه السلام - إليهم ، وقرئ : " لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا " بالتاء " وربنا " بالنصب على النداء ، وهذا كلام التائبين كما قال آدم وحواء عليهما السلام :( وإن لم تغفر لنا وترحمنا ) [الأعراف : 23] .