ولقائل أن يقول : لو كانت ، فلم قال العجلة مذمومة موسى - عليه السلام - :( وعجلت إليك رب لترضى ) [ طه : 84 ] قال المعنى :( ابن عباس أعجلتم أمر ربكم ) يعني ميعاد ربكم فلم تصبروا له ؟ وقال الحسن : وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين ، وذلك لأنهم قدروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة ، فقد مات .
[ ص: 11 ] وقال عطاء : يريد أعجلتم سخط ربكم ؟ وقال الكلبي : أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم ؟ ولما ذكر تعالى أن موسى رجع غضبان ذكر بعده ما كان ذلك الغضب موجبا له ، وهو أمران :
الأول : أنه قال :( وألقى الألواح ) يريد التي فيها التوراة ، ولما كانت تلك الألواح أعظم معاجزه ، ثم إنه ألقاها ، دل ذلك على شدة الغضب ، لأن المرء لا يقدم على مثل هذا العمل إلا عند حصول الغضب المدهش . روي أن التوراة كانت سبعة أسباع ، فلما ألقى الألواح تكسرت ، فرفع منها ستة أسباعها وبقي سبع واحد . وكان فيما رفع تفصيل كل شيء ، وفيما بقي الهدى والرحمة ، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( موسى ليس الخبر كالمعاينة ، لقد أخبره الله تعالى بفتنة قومه فعرف أن ما أخبره به حق ، وأنه على ذلك متمسك بما في يده ) . يرحم الله أخي
ولقائل أن يقول : ليس في القرآن إلا أنه ألقى الألواح فأما أنه ألقاها بحيث تكسرت ، فهذا ليس في القرآن وإنه لجراءة عظيمة على كتاب الله ، ومثله لا يليق بالأنبياء عليهم السلام .
والأمر الثاني : من الأمور المتولدة عن ذلك الغضب :
قوله تعالى :( وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه ) وفي هذا الموضع سؤال لمن يقدح في عليهم السلام ذكرناه في سورة طه مع الجواب الصحيح ، وبالجملة فالطاعنون في عصمة الأنبياء يقولون : إنه أخذ برأس أخيه يجره إليه على سبيل الإهانة والاستخفاف ، والمثبتون لعصمة الأنبياء قالوا : إنه جر رأس أخيه إلى نفسه ليساره ويستكشف منه كيفية تلك الواقعة . عصمة الأنبياء
فإن قيل : فلماذا قال :( ابن أم إن القوم استضعفوني ) ؟
قلنا : الجواب عنه أن هارون - عليه السلام - خاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى - عليه السلام - غضبان عليه كما أنه غضبان على عبدة العجل ، فقال له : ابن أم ، إن القوم استضعفوني وما أطاعوني في ترك عبادة العجل ، وقد نهيتهم ولم يكن معي من الجمع ما أمنعهم بهم عن هذا العمل ، فلا تفعل بي ما تشمت أعدائي به ، فهم أعداؤك فإن القوم يحملون هذا الفعل الذي تفعله بي على الإهانة لا على الإكرام .
وأما قوله تعالى( ابن أم ) فاعلم أنه قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم " ابن أم " بكسر الميم ، وفي طه مثله على تقدير أمي فحذف ياء الإضافة لأن مبنى النداء على الحذف وبقي الكسر على الميم ليدل على الإضافة ، كقوله : ( يا عباد ) والباقون بفتح الميم في السورتين ، وفيه قولان :
أحدهما : أنهما جعلا اسما واحدا وبني لكثرة اصطحاب هذين الحرفين فصار بمنزلة اسم واحد نحو حضرموت وخمسة عشر .
وثانيهما : أنه على حذف الألف المبدلة من ياء الإضافة ، وأصله يا ابن أما كما قال الشاعر :
يا ابنة عما لا تلومي واهجعي
وقوله :( إن القوم استضعفوني ) أي لم يلتفتوا إلى كلامي وكادوا يقتلونني ، فلا تشمت بي الأعداء -يعني أصحاب العجل- ولا تجعلني مع القوم الظالمين ، الذين عبدوا العجل ، أي لا تجعلني شريكا لهم في عقوبتك لهم على فعلهم ، فعند هذا قال موسى - عليه السلام - :( رب اغفر لي ) أي فيما أقدمت عليه من هذا الغضب والحدة( ولأخي ) في تركه التشديد العظيم على عبدة العجل( وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ) .
[ ص: 12 ] واعلم أن تمام هذه السؤالات والجوابات في هذه القصة مذكور في سورة طه . والله أعلم .