( واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون )
قوله تعالى :( واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون )
اعلم أن هذا من بقية موسى - صلى الله عليه وسلم - عند مشاهدة الرجفة . فقوله :( دعاء واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة ) معناه أنه قرر أولا أنه لا ولي له إلا الله تعالى وهو قوله :( أنت ولينا ) ثم إن المتوقع من الولي والناصر أمران :
أحدهما : دفع الضرر .
والثاني : تحصيل النفع .
ودفع الضرر مقدم على تحصيل النفع ، فلهذا السبب بدأ بطلب دفع الضرر ، وهو قوله :( فاغفر لنا وارحمنا ) ثم أتبعه بطلب تحصيل النفع وهو قوله :( واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ) وقوله :( واكتب ) أي أوجب لنا ، والكتابة تذكر بمعنى الإيجاب ، وسؤاله الحسنة في الدنيا والآخرة كسؤال المؤمنين من هذه الأمة ، حيث أخبر الله تعالى عنهم في قوله :( ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ) [ البقرة : 201 ] .
واعلم أن كونه تعالى وليا للعبد يناسب أن يطلب العبد منه دفع المضار وتحصيل المنافع ؛ ليظهر آثار كرمه وفضله وإلهيته ، وأيضا اشتغال العبد بالتوبة والخضوع والخشوع يناسب طلب هذه الأشياء ، فذكر السبب الأول أولا ، وهو كونه تعالى وليا له ، وفرع عليه طلب هذه الأشياء ، ثم ذكر بعده السبب الثاني ، وهو اشتغال العبد بالتوبة والخضوع فقال :( إنا هدنا إليك ) قال المفسرون :( هدنا ) أي تبنا ورجعنا إليك ، قال [ ص: 19 ] الليث : الهود التوبة ، وإنما ذكر هذا السبب أيضا ؛ لأن السبب الذي يقتضي حسن طلب هذه الأشياء ليس إلا مجموع هذين الأمرين : كونه إلها وربا ووليا ، وكوننا عبيدا له تائبين خاضعين خاشعين ، فالأول عهد عزة الربوبية ، والثاني عهد ذلة العبودية ، فإذا حصلا واجتمعا فلا سبب أقوى منهما .
ولما حكى الله تعالى دعاء موسى - عليه السلام - ذكر بعده ما كان جوابا لموسى - عليه السلام - ، فقال تعالى قال :( قال عذابي أصيب به من أشاء ) معناه أني أعذب من أشاء وليس لأحد علي اعتراض ؛ لأن الكل ملكي ، ومن تصرف في خالص ملكه فليس لأحد أن يعترض عليه ، وقرأ الحسن " من أساء " من الإساءة ، واختار هذه القراءة ، وقوله :( الشافعي ورحمتي وسعت كل شيء ) فيه أقوال كثيرة . قيل المراد من قوله :( ورحمتي وسعت كل شيء ) هو أن وإليه الإشارة بقوله :( رحمته في الدنيا عمت الكل ، وأما في الآخرة فهي مختصة بالمؤمنين فسأكتبها للذين يتقون ) وقيل : الوجود خير من العدم ، وعلى هذا التقدير فلا موجود إلا وقد وصلت إليه رحمته ، وأقل المراتب وجوده ، وقيل الخير مطلوب بالذات ، والشر مطلوب بالعرض ، وما بالذات راجح غالب ، وما بالعرض مرجوح مغلوب ، وقالت المعتزلة : الرحمة عبارة عن إرادة الخير ، ولا حي إلا وقد خلقه الله تعالى للرحمة واللذة والخير ؛ لأنه إن كان منتفعا أو متمكنا من الانتفاع فهو برحمة الله من جهات كثيرة ، وإن حصل هناك ألم فله الأعواض الكثيرة ، وهي من نعمة الله تعالى ورحمته فلهذا السبب قال :( ورحمتي وسعت كل شيء ) وقال أصحابنا قوله :( ورحمتي وسعت كل شيء ) من العام الذي أريد به الخاص ، كقوله :( وأوتيت من كل شيء ) [النمل : 23] .