[ ص: 31 ] ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون )
قوله تعالى :( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون )
اعلم أن هذه القصة أيضا مذكورة في سورة البقرة . وفيها مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى :( واسألهم ) المقصود تعرف هذه القصة من قبلهم ؛ لأن هذه القصة قد صارت معلومة للرسول من قبل الله تعالى ، وإنما المقصود من ذكر هذا السؤال أحد أشياء :
الأول : أن المقصود من ذكر هذا السؤال تقرير أنهم كانوا قد أقدموا على هذا الذنب القبيح والمعصية الفاحشة تنبيها لهم على أن إصرارهم على الكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبمعجزاته ليس شيئا حدث في هذا الزمان ، بل هذا الكفر والإصرار كان حاصلا في أسلافهم من الزمان القديم .
والفائدة الثانية : أن الإنسان قد يقول لغيره : هل هذا الأمر كذا وكذا ؟ ليعرف بذلك أنه محيط بتلك الواقعة ، وغير ذاهل عن دقائقها ، ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا أميا لم يتعلم علما ، ولم يطالع كتابا ، ثم أنه يذكر هذه القصص على وجهها من غير تفاوت ولا زيادة ولا نقصان ، كان ذلك جاريا مجرى المعجز .
المسألة الثانية : الأكثرون على أن تلك القرية أيلة . وقيل : مدين . وقيل : طبرية ، والعرب تسمي المدينة قرية ، وعن : ما رأيت قرويين أفصح من أبي عمرو بن العلاء الحسن والحجاج يعني رجلين من أهل المدن ، وقوله :( كانت حاضرة البحر ) يعني قريبة من البحر وبقربه وعلى شاطئه ، والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى :( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) [ البقرة : 196 ] .
وقوله :( إذ يعدون في السبت ) يعني يجاوزون حد الله فيه ، وهو ، وقرئ " يعدون " بمعنى يعتدون أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين " يعدون " من الإعداد وكانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة و" السبت " مصدر سبتت اصطيادهم يوم السبت وقد نهوا عنه اليهود إذا عظمت سبتها ، فقوله :( إذ يعدون في السبت ) معناه يعدون في تعظيم هذا اليوم ، وكذلك قوله :( يوم سبتهم ) معناه : يوم تعظيمهم أمر السبت ، ويدل عليه قوله :( ويوم لا يسبتون ) ويؤكده أيضا قراءة " يوم أسباتهم " ، وقرئ " لا يسبتون " بضم الباء ، وقرأ عمر بن عبد العزيز علي رضي الله عنه " لا يسبتون " بضم الياء من أسبتوا ، وعن الحسن " لا يسبتون " على البناء للمفعول ، وقوله :( إذ تأتيهم حيتانهم ) نصب بقوله :( يعدون ) والمعنى : سلهم إذ عدوا في وقت الإتيان ، وقوله :( يوم سبتهم شرعا ) أي ظاهرة على الماء ، وشرع جمع شارع وشارعة ، وكل شيء دان من شيء فهو شارع ، ودار شارعة أي دنت من الطريق ، ونجوم شارعة أي دنت من المغيب . وعلى هذا فالحيتان كانت تدنو من القرية بحيث يمكنهم صيدها ، قال ابن عباس : إن ومجاهد اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به - يوم الجمعة - فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله به وحرم عليهم الصيد [ ص: 32 ] فيه وأمروا بتعظيمه ، فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر . فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل . وذلك بلاء ابتلاهم الله به ، فذلك معنى قوله :( ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ) .
وقوله :( كذلك نبلوهم ) أي مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم ، وذلك يدل على أن ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى لا يجب عليه رعاية الصلاح والأصلح لا في الدين ولا في الدنيا ؛ وذلك لأنه تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السبت ربما يحملهم على المعصية والكفر ، فلو وجب عليه رعاية الصلاح والأصلح ؛ لوجب أن لا يكثر هذه الحيتان في ذلك اليوم صونا لهم عن ذلك الكفر والمعصية . فلما فعل ذلك ، ولم يبال بكفرهم ومعصيتهم علمنا أن من أطاع الله تعالى خفف الله عنه أحوال الدنيا والآخرة ، ومن عصا ابتلاه بأنواع البلاء والمحن . رعاية الصلاح والأصلح غير واجبة على الله تعالى