قوله تعالى :( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون )
هذه الآية هي الحجة الثانية في هذا الموضع على صحة مذهبنا في مسألة ، وتقريره من وجوه : خلق الأفعال وإرادة الكائنات
الأول : أنه تعالى بين باللفظ الصريح أنه خلق كثيرا من الجن والإنس لجهنم ، ولا مزيد على بيان الله .
الثاني : أنه تعالى لما أخبر عنهم بأنهم من أهل النار ، فلو لم يكونوا من أهل النار انقلب علم الله جهلا وخبره الصدق كذبا ، وكل ذلك محال ، والمفضي إلى المحال محال ، فعدم دخولهم في النار محال ، ومن علم كون الشيء محالا امتنع أن يريده ، فثبت أنه تعالى يمتنع أن يريد أن لا يدخلهم في النار ، بل يجب أن يريد أن يدخلهم في النار ، وذلك هو الذي دل عليه لفظ الآية .
الثالث : أن القادر على الكفر إن لم يقدر على الإيمان ، فالذي خلق فيه القدرة على الكفر ، فقد أراد أن يدخله في النار ، وإن كان قادرا على الكفر وعلى الإيمان معا امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح ، وذلك المرجح إن حصل من قبله لزم التسلسل ، وإن حصل من قبله تعالى ، فلما كان هو الخالق للداعية الموجبة للكفر ، فقد خلقه للنار قطعا .
الرابع : أنه تعالى لو خلقه للجنة وأعانه على اكتساب تحصيل ما يوجب دخول الجنة ، ثم قدرنا أن العبد سعى في تحصيل الكفر الموجب للدخول في النار ، فحينئذ حصل مراد العبد ، ولم يحصل مراد الله تعالى ، فيلزم كون العبد أقدر وأقوى من الله تعالى ، وذلك لا يقوله عاقل .
والخامس : أن العاقل لا يريد الكفر والجهل الموجب لاستحقاق النار ، وإنما يريد الإيمان والمعرفة الموجبة لاستحقاق الثواب والدخول في الجنة ، فلما حصل الكفر والجهل على خلاف قصد العبد وضد جهده واجتهاده ، وجب أن لا يكون حصوله من قبل العبد ، بل يجب أن يكون حصوله من قبل الله تعالى .
فإن قالوا : العبد إنما سعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الفاسد الباطل ؛ لأنه اشتبه الأمر عليه وظن أنه هو الاعتقاد الحق الصحيح .
فنقول : فعلى هذا التقدير : إنما وقع في هذا الجهل لأجل ذلك الجهل المتقدم ، فإن كان إقدامه على ذلك الجهل السابق لجهل آخر لزم التسلسل ، وهو محال ، وإن انتهى إلى جهل حصل ابتداء لا لسابقة جهل آخر ، فقد توجه الإلزام وتأكد الدليل والبرهان ، فثبت أن هذه البراهين العقلية ناطقة بصحة ما دل عليه صريح قوله سبحانه وتعالى :( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس )
قالت المعتزلة : لا يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ؛ لأن كثيرا من الآيات دالة على أنه أراد من الكل الطاعة والعبادة والخير والصلاح . قال تعالى :( إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله ) [ الفتح : 8 - 9 ] وقال :( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) [ النساء : 64 ] وقال :( ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ) [ الفرقان : 50 ] وقال :( هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور ) [ الحديد : 9 ] وقال :( وأنزلنا معهم الكتاب ) [ ص: 51 ] ( والميزان ليقوم الناس بالقسط ) [ الحديد : 25 ]
وقال :( يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ) [ إبراهيم : 10 ] ، وقال :( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] وأمثال هذه الآيات كثيرة ، ونحن نعلم بالضرورة أنه لا يجوز وقوع التناقض في القرآن ، فعلمنا أنه لا يمكن حمل قوله تعالى :( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ) على ظاهره .
الوجه الثاني : أنه تعالى قال بعد هذه الآية :( لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ) وهو تعالى إنما ذكر ذلك في معرض الذم لهم ، ولو كانوا مخلوقين للنار ، لما كانوا قادرين على الإيمان البتة ، وعلى هذا التقدير فيقبح ذمهم على ترك الإيمان .
الوجه الثالث : وهو أنه تعالى لو خلقهم للنار لما كان له على أحد من الكفار نعمة أصلا ؛ لأن منافع الدنيا بالقياس إلى العذاب الدائم ، كالقطرة في البحر ، وكان كمن دفع إلى إنسان حلوا مسموما فإنه لا يكون منعما عليه ، فكذا ههنا . ولما كان القرآن مملوءا من كثرة نعمة الله على كل الخلق ، علمنا أن الأمر ليس كما ذكرتم .
الوجه الرابع : أن المدح والذم ، والثواب والعقاب ، والترغيب والترهيب يبطل هذا المذهب الذي ينصرونه .
الوجه الخامس : لو أنه تعالى خلقهم للنار ، لوجب أن يخلقهم ابتداء في النار ، لأنه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم .
الوجه السادس : أن قوله :( ولقد ذرأنا لجهنم ) متروك الظاهر ، لأن جهنم اسم لذلك الموضع المعين ، ولا يجوز أن يكون الموضع المعين مرادا منه ، فثبت أنه لا بد وأن يقال : إن ما أراد الله تعالى بخلقهم منهم محذوف ، فكأنه قال : ولقد ذرأنا لكي يكفروا فيدخلوا جهنم ، فصارت الآية على قولهم متروكة الظاهر ، فيجب بناؤها على قوله :( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) لأن ظاهرها يصح دون حذف .
الوجه السابع : أنه إذا كان المراد أنه إذا ذرأهم لكي يكفروا فيصيروا إلى جهنم ، عاد الأمر في تأويلهم إلى أن هذه اللام للعاقبة ، لكنهم يجعلونها للعاقبة مع أنه لا استحقاق للنار ، ونحن قد قلناها على عاقبة حاصلة مع استحقاق النار ، فكان قولنا أولى ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها ، فوجب المصير فيه إلى التأويل ، وتقريره : أنه لما كانت عاقبة كثير من الجن والإنس ، هي الدخول في نار جهنم ، جائز ذكر هذه اللام بمعنى العاقبة ، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والشعر : أما القرآن فقوله تعالى :( وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ) [ الأنعام : 105 ] ومعلوم أنه تعالى ما صرفها ليقولوا ذلك ، لكنهم لما قالوا ذلك ، حسن ورود هذا اللفظ ، وأيضا قال تعالى :( ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ) [ يونس : 88 ] ، وأيضا قال تعالى :( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) [ القصص : 8 ] وهم ما التقطوه لهذا الغرض ، إلا أنه لما كانت عاقبة أمرهم ذلك ، حسن هذا اللفظ ، وأما الشعر فأبيات قال :
[ ص: 52 ]
وللموت تغدوا الوالدات سخالها كما لخراب الدهر تبنى المساكن
وقال :
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وقال :
له ملك ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب
وقال :
وأم سماك فلا تجزعي فللموت ما تلد الوالدة
هذا منتهى كلام القوم في الجواب .
واعلم أن المصير في التأويل إنما يحسن إذا ثبت بالدليل امتناع العقل حمل هذا اللفظ على ظاهره ، وأما لما ثبت بالدليل أنه لا حق إلا ما دل عليه ظاهر اللفظ ، كان المصير إلى التأويل في مثل هذا المقام عبثا . وأما الآيات التي تمسكوا بها في إثبات مذهب المعتزلة ، فهي : معارضة بالبحار الزاخرة المملوءة من الآيات الدالة على مذهب أهل السنة ، ومن جملتها ما قبل هذه الآية وهو قوله :( من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ) وهو صريح مذهبنا ، وما بعد هذه الآية ، وهو قوله :( والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين ) [ الأعراف : 182 ، 183 ] ولما كان ما قبل هذه الآية وما بعدها ليس إلا ما يقوي قولنا ويشيد مذهبنا ، كان كلام المعتزلة في وجوب تأويل هذه الآية ضعيفا جدا .