( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون )
قوله تعالى :( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) .
اعلم أنه تعالى لما عظم شأن القرآن بقوله :( هذا بصائر من ربكم ) أردفه بقوله :( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الإنصات السكوت والاستماع ، يقال : نصت ، وأنصت ، وانتصت ، بمعنى واحد .
المسألة الثانية : لا شك أن قوله :( فاستمعوا له وأنصتوا ) أمر ، وظاهر الأمر للوجوب ، فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجبا ، وللناس فيه أقوال .
القول الأول : وهو قول الحسن وقول أهل الظاهر : أنا نجري هذه الآية على عمومها ، فعلى هذا القول يجب الإنصات لعابري الطريق ومعلمي الصبيان . ففي أي موضع قرأ الإنسان القرآن وجب على كل أحد استماعه والسكوت
والقول الثاني : أنها نزلت في تحريم ، قال الكلام في الصلاة رضي الله عنه : كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت هذه الآية ، وأمروا بالإنصات ، وقال أبو هريرة قتادة : كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم ، كم صليتم وكم بقي ؟ وكانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
والقول الثالث : أن الآية نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام . قال : ابن عباس قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة المكتوبة وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم ، فخلطوا عليه ، فنزلت هذه الآية ، وهو قول وأصحابه . أبي حنيفة
[ ص: 84 ] القول الرابع : أنها نزلت في ، وهذا قول السكوت عند الخطبة سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء ، وهذا القول منقول عن رحمه الله ، وكثير من الناس قد استبعد هذا القول ، وقال : اللفظ عام وكيف يجوز قصره على هذه الصورة الواحدة . وأقول هذا القول في غاية البعد لأن لفظة إذا تفيد الارتباط ولا تفيد التكرار ، والدليل عليه أن الرجل إذا الشافعي طلقت طلقة واحدة ، فإذا دخلت الدار ثانيا لم تطلق بالاتفاق لأن كلمة ( إذا ) لا تفيد التكرار . قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق ، فدخلت الدار مرة واحدة
إذا ثبت هذا فنقول : قوله :( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) لا يفيد إلا وجوب الإنصات مرة واحدة ، فلما أوجبنا الاستماع عند قراءة القرآن في الخطبة ، فقد وفينا بموجب اللفظ ولم يبق في اللفظ دلالة على ما وراء هذه الصورة ، سلمنا أن اللفظ يفيد العموم إلا أنا نقول بموجب الآية ، وذلك لأن عند رحمه الله : يسكت الإمام ، وحينئذ يقرأ المأموم الفاتحة في حال سكتة الإمام ، كما قال الشافعي أبو سلمة : للإمام سكتتان ، فاغتنم القراءة في أيهما شئت ، وهذا السؤال أورده الواحدي في "البسيط" .
ولقائل أن يقول : سكوت الإمام إما أن نقول : إنه من الواجبات أو ليس من الواجبات ، والأول باطل بالإجماع والثاني يقتضي أن يجوز له أن لا يسكت . فبتقدير : أن لا يسكت يلزم أن تحصل قراءة المأموم مع قراءة الإمام ، وذلك يفضي إلى ترك الاستماع ، وإلى ترك السكوت عند قراءة الإمام ، وذلك على خلاف النص ، وأيضا فهذا السكوت ليس له حد محدود ومقدار مخصوص ، والسكتة للمأمومين مختلفة بالثقل والخفة ، فربما لا يتمكن المأموم من إتمام قراءة الفاتحة في مقدار سكوت الإمام ، وحينئذ يلزم المحذور المذكور ، وأيضا فالإمام إنما يبقى ساكتا ليتمكن المأموم من إتمام القراءة ، وحينئذ ينقلب الإمام مأموما ، والمأموم إماما ، لأن الإمام في هذا السكوت يصير كالتابع للمأموم ، وذلك غير جائز ، فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الواحدي غير جائز ، وذكر الواحدي سؤالا ثانيا على التمسك بالآية ، فقال : إن الإنصات هو ترك الجهر ، والعرب تسمي تارك الجهر منصتا ، وإن كان يقرأ في نفسه إذا لم يسمع أحدا .
ولقائل أن يقول : إنه تعالى أمره أولا بالاستماع ، واشتغاله بالقراءة يمنعه من الاستماع ، لأن السماع غير ، والاستماع غير ، فالاستماع عبارة عن كونه بحيث يحيط بذلك الكلام المسموع على الوجه الكامل ، قال تعالى لموسى عليه السلام :( وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ) [طه : 13] والمراد ما ذكرناه ، وإذا ثبت هذا وظهر أن الاشتغال بالقراءة مما يمنع من الاستماع علمنا أن الأمر بالاستماع يفيد النهي عن القراءة .
السؤال الثالث وهو المعتمد أن نقول : الفقهاء أجمعوا على أنه يجوز فهب أن عموم قوله تعالى :( تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) يوجب ، إلا أن قوله عليه الصلاة والسلام : " سكوت المأموم عند قراءة الإمام " ، وقوله : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " أخص من ذلك العموم ، وثبت أن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لازم فوجب المصير إلى تخصيص عموم هذه الآية بهذا الخبر ، وهذا السؤال حسن . لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب
والسؤال الرابع : أن نقول : مذهب مالك وهو القول القديم أنه لا يجوز للمأموم أن يقرأ الفاتحة في الصلوات الجهرية ، عملا بمقتضى هذا النص ، ويجب عليه القراءة في الصلوات السرية ، لأن هذه الآية لا دلالة فيها على هذه الحالة ، وهذا أيضا سؤال حسن . للشافعي
وفي الآية قول خامس وهو أن قوله تعالى : [ ص: 85 ] ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) خطاب مع الكفار في ابتداء التبليغ وليس خطابا مع المسلمين ، وهذا قول حسن مناسب ، وتقريره أن الله تعالى حكى قبل هذه الآية أن أقواما من الكفار يطلبون آيات مخصوصة ومعجزات مخصوصة ، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يأتيهم بها قالوا لولا اجتبيتها ، فأمر الله رسوله أن يقول جوابا عن كلامهم إنه ليس لي أن أقترح على ربي ، وليس لي إلا أن أنتظر الوحي ، ثم بين تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها في صحة النبوة ، لأن وعبر الله تعالى عن هذا المعنى بقوله :( القرآن معجزة تامة كافية في إثبات النبوة هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) فلو قلنا إن قوله تعالى :( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) المراد منه لم يحصل بين هذه الآية وبين ما قبلها تعلق بوجه من الوجوه ، وانقطع النظم ، وحصل فساد الترتيب ، وذلك لا يليق بكلام الله تعالى ، فوجب أن يكون المراد منه شيئا آخر سوى هذا الوجه ، وتقريره أنه لما ادعى كون القرآن بصائر وهدى ورحمة من حيث إنه معجزة دالة على صدق قراءة المأموم خلف الإمام محمد عليه الصلاة والسلام ، وكونه كذلك لا يظهر إلا بشرط مخصوص ، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ القرآن على أولئك الكفار استمعوا له وأنصتوا حتى يقفوا على فصاحته ، ويحيطوا بما فيه من العلوم الكثيرة ، فحينئذ يظهر لهم كونه معجزا دالا على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، فيستعينوا بهذا القرآن على طلب سائر المعجزات ، ويظهر لهم صدق قوله في صفة القرآن أنه ( بصائر وهدى ورحمة ) فثبت أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه استقام النظم وحصل الترتيب الحسن المفيد ، ولو حملنا الآية على منع المأموم من القراءة خلف الإمام فسد النظم واختل الترتيب ، فثبت أن حمله على ما ذكرناه أولى ، وإذا ثبت هذا ظهر أن قوله :( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له ) خطاب مع الكفار عند قراءة الرسول عليهم القرآن في معرض الاحتجاج بكونه معجزا على صدق نبوته ، وعند هذا يسقط استدلال الخصوم بهذه الآية من كل الوجوه ، ومما يقوي أن حمل الآية على ما ذكرناه أولى ، وجوه :
الوجه الأول : أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم قالوا :( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) [فصلت : 26] فلما حكى عنهم ذلك ناسب أن يأمرهم بالاستماع والسكوت حتى يمكنهم الوقوف على ما في القرآن من الوجوه الكثيرة البالغة إلى حد الإعجاز .
والوجه الثاني : أنه تعالى قال قبل هذه الآية :( هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) فحكم تعالى بكون هذا القرآن رحمة للمؤمنين على سبيل القطع والجزم .
ثم قال :( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) ولو كان المخاطبون بقوله :( فاستمعوا له وأنصتوا ) هم المؤمنون لما قال :( لعلكم ترحمون ) لأنه جزم تعالى قبل هذه الآية بكون القرآن رحمة للمؤمنين قطعا فكيف يقول بعده من غير فصل لعل استماع القرآن يكون رحمة للمؤمنين ؟ أما إذا قلنا : إن المخاطبين بقوله :( فاستمعوا له وأنصتوا ) هم الكافرون ، صح حينئذ قوله :( لعلكم ترحمون ) لأن المعنى؛ فاستمعوا له وأنصتوا فلعلكم تطلعون على ما فيه من دلائل الإعجاز ، فتؤمنوا بالرسول فتصيروا مرحومين ، فثبت أنا لو حملناه على ما قلناه حسن قوله :( لعلكم ترحمون ) ولو قلنا إن الخطاب خطاب مع المؤمنين لم يحسن ذكر لفظ "لعل" فيه . فثبت أن حمل الآية على التأويل الذي ذكرناه أولى ، وحينئذ يسقط [ ص: 86 ] استدلال الخصم به من كل الوجوه ، لأنا بينا بالدليل أن هذا الخطاب ما يتناول المؤمنين ، وإنما تناول الكفار في أول زمان تبليغ الوحي والدعوة .