( إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون )
قوله تعالى :( إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لما رغب الله رسوله في الذكر وفي المواظبة عليه ذكر عقيبه ما يقوي دواعيه في ذلك فقال :( إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ) والمعنى : أن الملائكة مع نهاية شرفهم وغاية طهارتهم [ ص: 90 ] وعصمتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والغضب ، وحوادث الحقد والحسد ، لما كانوا مواظبين على العبودية والسجود والخضوع والخشوع ، فالإنسان مع كونه مبتلى بظلمات عالم الجسمانيات ومستعدا للذات البشرية والبواعث الإنسانية أولى بالمواظبة على الطاعة ، ولهذا السبب قال عيسى عليه السلام :( وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ) [مريم : 31] وقال لمحمد عليه السلام :( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [الحجر : 99] .
المسألة الثانية : إن الذين عند ربك ) وقالوا لفظ( عند ) مشعر بالمكان والجهة . المشبهة تمسكوا بقوله :(
وجوابه أنا ذكرنا البراهين الكثيرة العقلية والنقلية في هذه السورة عند تفسير قوله :( ثم استوى على العرش ) [الأعراف : 54] على أنه يمتنع كونه تعالى حاصلا في المكان والجهة .
وإذا ثبت هذا فنقول : وجب المصير إلى التأويل في هذه الآية ، وبيانه من وجوه :
الوجه الأول : أنه تعالى قال :( وهو معكم ) [الحديد : 4] ولا شك أن هذه فكذا هنا ، وأيضا جاء في الأخبار الربانية أنه تعالى قال : " المعية بالفضل والرحمة لا بالجهة أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي " ولا خلاف أن هذه العندية ليست لأجل المكان والجهة ، فكذا هنا .
والوجه الثاني : أن المراد القرب بالشرف . ويقال : للوزير قربة عظيمة من الأمير ، وليس المراد منه القرب بالجهة ، لأن البواب والفراش يكون أقرب إلى الملك في الجهة والحيز والمكان من الوزير ، فعلمنا أن القرب المعتبر هو القرب بالشرف لا القرب بالجهة .
والوجه الثالث : أن هذا تشريف للملائكة بإضافتهم إلى الله من حيث إنه أسكنهم في المكان الذي كرمه وشرفه وجعله منزل الأنوار ومصعد الأرواح والطاعات والكرامات .
والوجه الرابع : إنما قال تعالى في :( صفة الملائكة الذين عند ربك ) لأنهم رسل الله إلى الخلق كما يقال : إن عند الخليفة جيشا عظيما ، وإن كانوا متفرقين في البلد ، فكذا ههنا . والله أعلم .
المسألة الثالثة : تمسك أبو بكر الأصم رحمه الله بهذه الآية في إثبات أن ، لأنه تعالى لما أمر رسوله بالعبادة والذكر قال :( الملائكة أفضل من البشر إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ) والمعنى فأنت أولى وأحق بالعبادة ، وهذا الكلام إنما يصح لو كانت الملائكة أفضل منه .
المسألة الرابعة : ذكر من طاعاتهم أولا كونهم يسبحون ، وقد عرفت أن ، وذلك يرجع إلى المعارف والعلوم ، ثم لما ذكر التسبيح أردفه بذكر السجود ، وذلك يرجع إلى أعمال الجوارح ، وهذا الترتيب يدل على أن الأصل في الطاعة والعبودية أعمال القلوب ، ويتفرع عليها أعمال الجوارح . وأيضا قوله :( التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى من كل سوء وله يسجدون ) يفيد الحصر ومعناه : أنهم لا يسجدون لغير الله .
فإن قيل : فكيف الجمع بينه وبين قوله تعالى :( فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) [الحجر : 30] والمراد أنهم سجدوا لآدم .
والجواب : قال الشيخ : الذين سجدوا الغزالي لآدم ملائكة الأرض ، فأما عظماء ملائكة السماوات فلا .
[ ص: 91 ] وقيل أيضا : إن قوله :( وله يسجدون ) يفيد أنهم ما سجدوا لغير الله ، فهذا يفيد العموم . وقوله : فسجدوا لآدم خاص ، والخاص مقدم على العام .
واعلم أن كثيرة ، كقوله تعالى حكاية عنهم :( الآيات الدالة على كون الملائكة مستغرقين في العبودية وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ) [الصافات : 166] وقوله :( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ) [الزمر : 75] والله أعلم .
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .