( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون  يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون    ) 
قوله تعالى :( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون  يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون    ) وفي الآية مسائل : 
المسألة الأولى : اعلم أن قوله :( كما أخرجك ربك    ) يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج ، وذكروا فيه وجوها : 
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى كثرة المشركين يوم بدر  وقلة المسلمين قال : " من قتل قتيلا فله سلبه  ، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا   " ليرغبهم في القتال ، فلما انهزم المشركون قال  سعد بن عبادة    : يا رسول الله إن جماعة من أصحابك وقومك فدوك بأنفسهم ، ولم يتأخروا عن القتال جبنا ولا بخلا ببذل مهجهم ولكنهم أشفقوا عليك من أن تغتال ، فمتى أعطيت هؤلاء ما سميته لهم بقي خلق من المسلمين بغير شيء فأنزل الله تعالى :( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول    ) [الأنفال : 1] يصنع فيها ما يشاء ، فأمسك المسلمون عن الطلب وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهية ، وأيضا حين خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القتال يوم بدر  كانوا كارهين لتلك المقاتلة على ما سنشرح حالة تلك الكراهية ، فلما قال تعالى :( قل الأنفال لله والرسول    ) كان التقدير أنهم رضوا بهذا الحكم في الأنفال وإن كانوا كارهين له كما أخرجك ربك من بيتك بالحق إلى القتال وإن كانوا كارهين له ، وهذا الوجه أحسن الوجوه المذكورة هنا . 
الثاني : أن يكون التقدير ثبت الحكم بأن الأنفال لله وإن كرهوه ، كما ثبت حكم الله بإخراجك إلى القتال وإن كرهوه . 
الثالث : لما قال :( أولئك هم المؤمنون حقا    ) كان التقدير : أن الحكم بكونهم مؤمنين حق ، كما أن حكم الله بإخراجك من بيتك للقتال حق . 
الرابع : قال الكسائي    : "الكاف" متعلق بما بعده ، وهو قوله :( يجادلونك في الحق    ) والتقدير   [ ص: 102 ]   ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق    ) على كره فريق من المؤمنين ، كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه ، والله أعلم . 
المسألة الثانية : قوله :( من بيتك    ) يريد بيته بالمدينة  أو المدينة  نفسها ، لأنها موضع هجرته وسكناه( بالحق    ) ، أي إخراجا متلبسا بالحكمة ، والصواب( وإن فريقا من المؤمنين لكارهون    ) في محل الحال ، أي أخرجك في حال كراهيتهم ، روي أن عير قريش  أقبلت من الشام  وفيها أموال كثيرة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان   ،  وعمرو بن العاص  ، وأقوام آخرون ، فأخبر جبريل  رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير ، وقلة القوم ، فلما أزمعوا وخرجوا ، بلغ أهل مكة  خبر خروجهم ، فنادى أبو جهل  فوق الكعبة    : يا أهل مكة  النجاء النجاء على كل صعب وذلول ! إن أخذ محمد  عيركم لن تفلحوا أبدا . وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب  رؤيا ، فقالت لأخيها : إني رأيت عجبا ، رأيت كأن ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ، ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة  إلا أصابه حجر من تلك الصخرة؛ فحدث بها العباس  ، فقال أبو جهل    : ما ترضى رجالهم بالنبوة حتى ادعى نساؤهم النبوة ! فخرج أبو جهل  بجميع أهل مكة  وهم النفير ، وفي المثل السائر - لا في العير ولا في النفير - فقيل له : العير أخذت طريق الساحل ونجت ، فارجع إلى مكة  بالناس ، فقال : لا والله لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ، وتغني القينات والمعازف ببدر  فتتسامع جميع العرب بخروجنا . وإن محمدا  لم يصب العير فمضى إلى بدر  بالقوم ، وبدر  كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة ، فنزل جبريل  وقال : يا محمد  إن الله وعدكم إحدى الطائفتين ، إما العير وإما النفير من قريش  ، واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال : " ما تقولون إن القوم خرجوا من مكة  على كل صعب وذلول ، فالعير أحب إليكم أم النفير ؟ قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدو ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل  قد أقبل ، فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو ، فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر  وعمر  فأحسنا ، ثم قام  سعد بن عبادة  فقال : امض إلى ما أمرك الله به فإنا معك حيثما أردت ، فوالله لو سرت إلى عدن  لما تخلف عنك رجل من الأنصار ، ثم قال  المقداد بن عمرو    : يا رسول الله امض إلى ما أمرك الله به ، فإنا معك حيثما أردت ، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل  لموسى    :( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون    ) [المائدة : 24] ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت منا عين تطرف . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : "سيروا على بركة الله ، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم" ، ولما فرغ رسول الله من بدر  قال بعضهم : عليك بالعير ، فناداه العباس  وهو في وثاقه ، لا يصلح ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لم ؟ قال : لأن الله وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك   . 
إذا عرفت هذه القصة فنقول : كانت كراهية القتال  حاصلة لبعضهم لا لكلهم ، بدليل قوله تعالى :( وإن فريقا من المؤمنين لكارهون    ) والحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقي النفير لإيثارهم العير . وقوله :( بعدما تبين    ) المراد منه : إعلام رسول الله بأنهم ينصرون ، وجدالهم قولهم : ما كان خروجنا إلا للعير ، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب للقتال ، وذلك لأنهم كانوا يكرهون القتال ، ثم إنه تعالى شبه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم بحال من يجر إلى القتل ويساق إلى الموت ، وهو شاهد لأسبابه ناظر إلى موجباته ، وبالجملة فقوله :( وهم ينظرون    ) كناية عن الجزم والقطع ، ومنه قوله عليه السلام : " من نفى ابنه وهو ينظر إليه   " أي يعلم أنه ابنه ، وقوله تعالى :( يوم ينظر المرء ما قدمت يداه    ) [النبأ : 40] أي يعلم . 
 [ ص: 103 ] واعلم أنه كان خوفهم لأمور : 
أحدها : قلة العدد . 
وثانيها : أنهم كانوا رجالة ، روي أنه ما كان فيهم إلا فارسان . 
وثالثها : قلة السلاح . 
المسألة الثالثة : روي أنه صلى الله عليه وسلم إنما خرج من بيته باختيار نفسه ، ثم إنه تعالى أضاف ذلك الخروج إلى نفسه فقال :( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق    ) وهذا يدل على أن فعل العبد بخلق الله تعالى  إما ابتداء أو بواسطة القدرة والداعية اللذين مجموعهما يوجب الفعل كما هو قولنا . قال القاضي : معناه أنه حصل ذلك الخروج بأمر الله تعالى وإلزامه ، فأضيف إليه . 
قلنا : لا شك أن ما ذكرتموه مجاز ، والأصل حمل الكلام على حقيقته . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					