( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين )
قوله تعالى :( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) .
اعلم أنه تعالى لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم بقوله :( واذكروا إذ أنتم قليل ) فكذلك ذكر رسوله نعمه عليه وهو دفع كيد المشركين ومكر الماكرين عنه ، وهذه السورة مدنية . قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من المفسرين : إن قريش تآمروا في دار الندوة ودخل عليهم إبليس في صورة شيخ ، وذكر أنه من مشركي أهل نجد . فقال بعضهم : قيدوه نتربص به ريب المنون ، فقال إبليس : لا مصلحة فيه؛ لأنه يغضب له قومه فتسفك له الدماء . وقال بعضهم : أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه لكم ، فقال إبليس : لا مصلحة فيه لأنه يجمع طائفة على نفسه ويقاتلكم بهم .
وقال أبو جهل : الرأي أن نجمع من كل قبيلة رجلا فيضربوه بأسيافهم ضربة واحدة فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على محاربة قريش كلها ، فيرضون بأخذ الدية ، فقال إبليس : هذا هو الرأي الصواب ، فأوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك وأذن له في الخروج إلى المدينة وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن الله له في الهجرة ، وأمر عليا أن يبيت في مضجعه ، وقال له : تسج [ ص: 125 ] ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه ، وباتوا مترصدين ، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا عليا فبهتوا وخيب الله سعيهم .
وقوله :( ليثبتوك ) قال : ليوثقوك ويشدوك وكل من شد فقد أثبت ، لأنه لا يقدر على الحركة ولهذا يقال لمن اشتدت به علة أو جراحة تمنعه من الحركة : قد أثبت فلان فهو مثبت ، وقيل ليسجنوك ، وقيل ليحبسوك ، وقيل ليثبتوك في بيت فحذف المحل لوضوح معناه ، وقرأ بعضهم ( ليثبتوك ) بالتشديد ، وقرأ ابن عباس ( ليبيتوك ) من البيات وقوله :( النخعي أو يقتلوك ) وهو الذي حكيناه عن أبي جهل لعنه الله( أو يخرجوك ) أي من مكة ، ولما ذكر تعالى هذه الأقسام الثلاثة قال :( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) وقد ذكرنا في سورة آل عمران في تفسير قوله :( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) [آل عمران : 54] تفسير المكر في حق الله تعالى .
والحاصل أنهم احتالوا على إبطال أمر محمد والله تعالى نصره وقواه ، فضاع فعلهم وظهر صنع الله تعالى . قال القاضي : القصة التي ذكرها موافقة للقرآن إلا ما فيها من حديث إبليس ، فإنه زعم أنه كانت صورته موافقة لصورة الإنس وذلك باطل ، لأن ذلك التصوير إما أن يكون من فعل الله أو من فعل إبليس ، والأول باطل لأنه لا يجوز من الله تعالى أن يفعل ذلك ليفتن الكفار في المكر ، والثاني أيضا باطل ، لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يقدر إبليس على تغيير صورة نفسه . ابن عباس
واعلم أن هذا النزاع عجيب ، فإنه لما لم يبعد من الله تعالى أن يقدر إبليس على أنواع الوساوس فكيف يبعد منه أن يقدره على تغيير صورة نفسه ؟ .
فإن قيل : والله خير الماكرين ) ولا خير في مكرهم . كيف قال :(
قلنا : فيه وجوه :
أحدها : أن يكون المراد أقوى الماكرين فوضع( خير ) موضع أقوى وأشد ، لينبه بذلك على أن كل مكر فهو يبطل في مقابلة فعل الله تعالى .
وثانيها : أن يكون المراد خير الماكرين لو قدر في مكرهم ما يكون خيرا وحسنا .
وثالثها : أن يكون المراد من قوله :( خير الماكرين ) ليس هو التفضيل ، بل المراد أنه في نفسه خير كما يقال : الثريد خير من الله تعالى .