[ ص: 134 ] ( إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم )
قوله تعالى :( إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ) .
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في إذ أنتم بالعدوة الدنيا ) قولان : قوله :(
أحدهما : أنه متعلق بمضمر معناه : واذكروا إذ أنتم كذا وكذا ، كما قال تعالى :( واذكروا إذ أنتم قليل ) [الأنفال : 26] .
والثاني : أن يكون قوله :( إذ ) بدلا عن يوم الفرقان .
المسألة الثانية : ابن كثير ونافع وأبو عمرو "بالعدوة " بكسر العين في الحرفين ، والباقون بالضم ، وهما لغتان ، قال قرأ : عدوة الوادي وعدوته جانبه ، والجمع عدى ، وعدى . قال ابن السكيت الأخفش : الكسر كلام العرب لم يسمع عنهم غير ذلك ، وقال أحمد بن يحيى : الضم في العدوة أكثر اللغتين ، وحكى صاحب "الكشاف" الضم والفتح والكسر ، قال : وقرئ بهن و"بالعدية" على قلب الواو ياء ؛ لأن بينها وبين الكسر حاجزا غير حصين ، كما في الفتية ، وأما " الدنيا " فتأنيث الأدنى وضده " القصوى " وهو تأنيث الأقصى ، وكل شيء تنحى عن شيء فقد قصا ، والأقصى والقصوى كالأكبر والكبرى .
فإن قيل : كلتاهما فعلى من باب الواو ، فلم جاءت إحداهما بالياء والثانية بالواو ؟
قلنا : القياس قلب الواو ياء ، كالعليا ، وأما القصوى ، فقد جاء شاذا ، وأكثر استعماله على أصله .
المسألة الثالثة : المراد بالعدوة الدنيا ما يلي جانب المدينة ، وبالقصوى ما يلي جانب مكة وكان الماء في العدوة التي نزل بها المشركون ، وكان استظهارهم من هذا الوجه أشد ، " والركب " العير التي خرجوا لها كانت في موضع( أسفل منكم ) إلى ساحل البحر( ولو تواعدتم ) أنتم وأهل مكة على القتال لخالف بعضكم بعضا لقلتكم وكثرتهم( ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ) أي أنه يثبتكم الله ، وينصركم ، ليقضي أمرا كان مفعولا ، واجبا أن يخرج إلى الفعل ، وقوله :( ليهلك من هلك ) بدل من قوله :( ليقضي ) ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لا شك أن ، وكانت الأرض التي نزلوا فيها أرضا رملية تغوص فيها أرجلهم ، وأما الكفار فكانوا في غاية القوة بسبب الكثرة في العدد ، وبسبب حصول الآلات والأدوات ؛ لأنهم كانوا قريبين من الماء ؛ ولأن الأرض التي نزلوا فيها كانت صالحة للمشي ؛ ولأن العير كانوا خلف ظهورهم ، وكانوا يتوقعون مجيء المدد من العير إليهم ساعة فساعة ، ثم إنه تعالى قلب القصة وعكس القضية ، وجعل الغلبة للمسلمين ، والدمار على الكافرين فصار ذلك من أعظم المعجزات وأقوى البينات [ ص: 135 ] على صدق عسكر الرسول عليه السلام في أول الأمر كانوا في غاية الخوف والضعف بسبب القلة وعدم الأهبة ، ونزلوا بعيدين عن الماء محمد صلى الله عليه وسلم ، فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر .
فقوله :( ليهلك من هلك عن بينة ) إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أن الذين هلكوا إنما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة ، والمؤمنون الذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة ، والمراد من البينة هذه المعجزة .
المسألة الثانية : اللام في قوله :( ليقضي الله أمرا كان مفعولا ) وفي قوله :( ليهلك من هلك عن بينة ) لام الغرض ، وظاهره يقتضي ، إلا أنا نصرف هذا الكلام عن ظاهره بالدلائل العقلية المشهورة . تعليل أفعال الله وأحكامه بالأغراض والمصالح
المسألة الثالثة : قوله :( ليهلك من هلك عن بينة ) ظاهره يقتضي أنه تعالى أراد من الكل العلم والمعرفة والخير والصلاح ، وذلك يقدح في ، لكنا نترك هذا الظاهر بالدلائل المعلومة . قول أصحابنا : أنه تعالى أراد الكفر من الكافر
المسألة الرابعة : ويحيا من حي عن بينة ) قرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم ، والبزي عن ابن كثير ، ونصير عن الكسائي " من حيي " بإظهار الياءين ، قوله :( وأبو عمرو ، وابن كثير برواية القواس ، وابن عامر وحفص عن عاصم والكسائي بياء مشددة على الإدغام ، فأما الإدغام فللزوم الحركة في الثاني ، فجرى مجرى رد ؛ لأنه في المصحف مكتوب بياء واحدة ، وأما الإظهار فلامتناع الإدغام في مضارعه من "يحيى" فجرى على مشاكلته ، وأجاز بعض الكوفيين الإدغام في " يحيى " .
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله :( وإن الله لسميع عليم ) أي يسمع دعاءكم ويعلم حاجتكم وضعفكم ، فأصلح مهمكم .