( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين )
قوله تعالى :( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ) .
[ ص: 155 ] في الآية مسائل :
المسألة الأولى : روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث العشرة إلى وجه المائة ، بعث حمزة في ثلاثين راكبا قبل بدر إلى قوم فلقيهم أبو جهل في ثلاثمائة راكب وأرادوا قتالهم ، فمنعهم حمزة عبد الله بن أنيس إلى خالد بن صفوان الهذلي وكان في جماعة ، فابتدر عبد الله وقال : يا رسول الله صفه لي ، فقال : "إنك إذا رأيته ذكرت الشيطان ووجدت لذلك قشعريرة وقد بلغني أنه جمع لي فاخرج إليه واقتله" قال : فخرجت نحوه فلما دنوت منه وجدت القشعريرة فقال لي : من الرجل ؟ قلت له : من العرب ، سمعت بك وبجمعك ، ومشيت معه حتى إذا تمكنت منه قتلته بالسيف وأسرعت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرت أني قتلته ، فأعطاني عصا وقال : "أمسكها فإنها آية بيني وبينك يوم القيامة" ثم إن هذا التكليف شق على المسلمين فأزاله الله عنهم بهذه الآية ، قال وبعث رسول الله عطاء عن : لما نزل التكليف الأول ضج المهاجرون ، وقالوا : يا رب نحن جياع وعدونا شباع ، ونحن في غربة وعدونا في أهليهم ، ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا وأولادنا وعدونا ليس كذلك ، وقال ابن عباس الأنصار : شغلنا بعدونا وواسينا إخواننا ، فنزل التخفيف ، وقال عكرمة : إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة ، والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين ، فلما كثروا خفف الله تعالى عنهم ، ولهذا قال : أيما ابن عباس فلم يفر ، فإن رجل فر من ثلاثة فقد فر ، والحاصل أن الجمهور ادعوا أن قوله :( فر من اثنين الآن خفف الله عنكم ) ناسخ للآية المتقدمة وأنكر أبو مسلم الأصفهاني هذا النسخ ، وتقرير قوله أن يقال : إنه تعالى قال في الآية الأولى :( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) فهب أنا نحمل هذا الخبر على الأمر إلا أن هذا الأمر كان مشروطا بكون العشرين قادرين على الصبر في مقابلة المائتين ، وقوله :( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) يدل على أن ذلك الشرط غير حاصل في حق هؤلاء ، فصار حاصل الكلام أن الآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص ، وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة ، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم ، وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ البتة .
فإن قالوا : قوله :( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) معناه : ليكن العشرون الصابرون في مقابلة المائتين ، وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم .
قلنا : لم لا يجوز أن يقال إن المراد من الآية : إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين ، فليشتغلوا بجهادهم ؟ والحاصل أن لفظ الآية ورد على صورة الخبر فخالفنا هذا الظاهر وحملناه على الأمر ، أما في رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره ، وتقديره : إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين فليشتغلوا بمقاومتهم ، وعلى هذا التقدير فلا نسخ .
فإن قالوا : قوله :( الآن خفف الله عنكم ) مشعر بأن هذا التكليف كان متوجها عليهم قبل هذا التكليف .
قلنا : لا نسلم أن لفظ التخفيف يدل على حصول التثقيل قبله ؛ لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام ، كقوله تعالى عند الرخصة للحر في نكاح الأمة( يريد الله أن يخفف عنكم ) [النساء : 28] وليس هناك نسخ وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر ، فكذا ههنا . وتحقيق القول أن هؤلاء العشرين كانوا في محل أن يقال : إن ذلك الشرط حاصل فيهم ، فكان ذلك التكليف لازما عليهم ، فلما بين الله أن ذلك الشرط غير حاصل وأنه تعالى علم أن فيهم ضعفاء لا يقدرون على ذلك فقد تخلصوا عن ذلك [ ص: 156 ] الخوف ، فصح أن يقال : خفف الله عنكم ، ومما يدل على عدم النسخ أنه تعالى ذكر هذه الآية مقارنة للآية الأولى ، وجعل الناسخ مقارنا للمنسوخ لا يجوز .
فإن قالوا : بالنزول دون التلاوة فإنها قد تتقدم وقد تتأخر ، ألا ترى أن في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ . العبرة في الناسخ والمنسوخ
قلنا : لما كان كون الناسخ مقارنا للمنسوخ غير جائز في الوجود ، وجب أن لا يكون جائزا في الذكر ، اللهم إلا لدليل قاهر وأنتم ما ذكرتم ذلك ، وأما قوله في عدة الوفاة : الناسخ مقدم على المنسوخ فنقول : إن أبا مسلم ينكر كل أنواع فكيف يمكن إلزام هذا الكلام عليه ؟ فهذا تقرير قول النسخ في القرآن أبي مسلم ، وأقول : إن ثبت إجماع الأمة على الإطلاق قبل أبي مسلم على حصول هذا النسخ فلا كلام عليه ، فإن لم يحصل هذا الإجماع القاطع فنقول : قول أبي مسلم صحيح حسن .