ثلاثون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم ( والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسري هل في ذلك قسم لذي حجر )
بسم الله الرحمن الرحيم ( والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسري هل في ذلك قسم لذي حجر )
اعلم أن هذه الأشياء التي أقسم الله تعالى بها لا بد وأن يكون فيها إما فائدة دينية مثل كونها دلائل باهرة على التوحيد ، أو فائدة دنيوية توجب بعثا على الشكر ، أو مجموعهما ، ولأجل ما ذكرناه اختلفوا في تفسير هذه الأشياء اختلافا شديدا ، فكل أحد فسره بما رآه أعظم درجة في الدين ، وأكثر منفعة في الدنيا .
أما قوله : ( والفجر ) فذكروا فيه وجوها :
أحدها : ما روي عن أن الفجر هو الصبح المعروف ، فهو انفجار الصبح الصادق والكاذب ، أقسم الله تعالى به لما يحصل به من انقضاء الليل وظهور الضوء وانتشار الناس وسائر الحيوانات من الطير والوحوش في طلب الأرزاق ، وذلك مشاكل لنشور الموتى من قبورهم ، وفيه عبرة لمن تأمل ، وهذا كقوله : ( ابن عباس والصبح إذا أسفر ) [ المدثر : 34 ] وقال في موضع آخر ، ( والصبح إذا تنفس ) [ التكوير : 18 ] ويمدح في آية أخرى بكونه خالقا له ، فقال : ( فالق الإصباح ) [ الأنعام : 96 ] ومنهم من قال المراد به جميع النهار إلا أنه دل بالابتداء على الجميع ، نظيره : ( والضحى ) [ الضحى : 1 ] وقوله : ( والنهار إذا تجلى ) [ الليل : 2 ] .
وثانيها : أن المراد نفس صلاة الفجر وإنما أقسم بصلاة الفجر لأنها صلاة في مفتتح النهار وتجتمع لها ملائكة النهار وملائكة الليل كما قال تعالى : ( إن قرآن الفجر كان مشهودا ) [ الإسراء : 78 ] أي . تشهد ملائكة الليل وملائكة النهار القراءة في صلاة الصبح
وثالثها : أنه فجر يوم معين ، وعلى هذا القول ذكروا وجوها :
الأول : أنه فجر يوم النحر ، وذلك لأن أمر المناسك من خصائص ملة إبراهيم ، وكانت العرب لا تدع الحج وهو يوم عظيم يأتي الإنسان فيه بالقربان كأن الحاج يريد أن يتقرب بذبح نفسه ، فلما عجز عن ذلك فدى نفسه بذلك القربان ، كما قال تعالى : ( وفديناه بذبح عظيم ) [ الصافات : 107 ] .
الثاني : أراد فجر ذي الحجة لأنه قرن به قوله : ( وليال عشر ) ولأنه أول شهر هذه [ ص: 148 ] العبادة المعظمة .
الثالث : المراد فجر المحرم ، أقسم به لأنه أول يوم من كل سنة ، وعند ذلك يحدث أمورا كثيرة مما يتكرر بالسنين كالحج والصوم والزكاة واستئناف الحساب بشهور الأهلة ، وفي الخبر أن المحرم ، وعن أعظم الشهور عند الله أنه قال : فجر السنة هو المحرم فجعل جملة المحرم فجرا . ابن عباس
ورابعها : أنه عنى بالفجر العيون التي تنفجر منها المياه ، وفيها حياة الخلق ، أما قوله : ( وليال عشر ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : إنما جاءت منكرة من بين ما أقسم الله به لأنها ليال مخصوصة بفضائل لا تحصل في غيرها ، والتنكير دال على الفضيلة العظيمة .
المسألة الثانية : ذكروا فيه وجوها :
أحدها : أنها عشر ذي الحجة لأنها أيام الاشتغال بهذا النسك في الجملة ، وفي الخبر : . ما من أيام العمل الصالح فيه أفضل من أيام العشر
وثانيها : أنها عشر المحرم من أوله إلى آخره ، وهو تنبيه على شرف تلك الأيام ، وفيها يوم عاشوراء ولصومه من الفضل ما ورد به الأخبار .
وثالثها : أنها العشر الأواخر من شهر رمضان ، أقسم الله تعالى بها لشرفها وفيها ليلة القدر ، إذ في الخبر اطلبوها في العشر الأخير من رمضان ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد المئزر ، وأيقظ أهله أي : كف عن الجماع وأمر أهله بالتهجد ، وأما قوله : ( والشفع والوتر ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : الشفع والوتر ، هو الذي تسميه العرب الخسا والزكا والعامة الزوج والفرد ، قال يونس : أهل العالية يقولون : الوتر بالفتح في العدد والوتر بالكسر في الذحل . وتميم تقول : وتر بالكسر فيهما معا ، وتقول أوترته أوتره إيتارا أي جعلته وترا ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " " والكسر قراءة من استجمر فليوتر الحسن والأعمش ، والفتح قراءة وابن عباس أهل المدينة وهي لغة حجازية .
المسألة الثانية : اضطرب المفسرون في وأكثروا فيه ، ونحن نرى ما هو الأقرب : تفسير الشفع والوتر
أحدها : أن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة ، وإنما أقسم الله بهما لشرفهما أما يوم عرفة فهو الذي عليه يدور أمر الحج كما في الحديث : ، وأما يوم النحر فيقع فيه القربان وأكثر أمور الحج من الطواف المفروض والحلق والرمي ، ويروى : يوم النحر هو يوم الحج الأكبر فلما اختص هذان اليومان بهذه الفضائل لا جرم أقسم الله بهما . الحج عرفة
وثانيها : أن أيام التشريق أيام بقية أعمال الحج فهي أيام شريفة ، قال الله تعالى : ( واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) [ البقرة : 203 ] والشفع هو يومان بعد يوم النحر ، الوتر هو اليوم الثالث ، ومن ذهب إلى هذا القول قال : حمل الشفع والوتر على هذا أولى من حملهما على العيد وعرفة من وجهين :
الأول : أن العيد وعرفة دخلا في العشر ، فوجب أن يكون المراد بالشفع والوتر غيرهما .
الثاني : أن بعض أعمال الحج إنما يحصل في هذه الأيام ، فحمل اللفظ على هذا يفيد القسم بجميع أيام أعمال المناسك .
وثالثها : الوتر آدم شفع بزوجته ، وفي رواية أخرى الشفع آدم وحواء والوتر هو الله تعالى .
ورابعها : الوتر ما كان وترا من الصلوات كالمغرب ، والشفع ما كان شفعا منها ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " عمران بن الحصين " وإنما أقسم الله بها لأن الصلاة تالية للإيمان ، ولا يخفى قدرها ومحلها من العبادات . هي الصلوات منها شفع ومنها وتر
وخامسها : الشفع هو الخلق كله لقوله تعالى : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين ) [ الذاريات : 49 ] وقوله : ( وخلقناكم أزواجا ) [ النبإ : 8 ] والوتر هو الله تعالى ، وقال بعض المتكلمين : لا يصح أن يقال : الوتر هو الله لوجوه :
الأول : أنا بينا أن قوله : ( والشفع والوتر ) تقديره : [ ص: 149 ] ورب الشفع والوتر ، فيجب أن يراد بالوتر المربوب فبطل ما قالوه .
الثاني : أن الله تعالى لا يذكر مع غيره على هذا الوجه بل يعظم ذكره حتى يتميز من غيره ، وروي أن عليه الصلاة والسلام سمع من يقول : " الله ورسوله " فنهاه ، وقال : " قل الله ثم رسوله " قالوا : وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " " ليس بمقطوع به . إن الله وتر يحب الوتر
وسادسها : أن شيئا من المخلوقات لا ينفك عن كونه شفعا ووترا فكأنه يقال : أقسم برب الفرد والزوج من خلق فدخل كل الخلق تحته ، ونظيره قوله : ( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون ) [ الحاقة : 38- 39 ] .
وسابعها : الشفع درجات الجنة وهي ثمانية ، والوتر دركات النار وهي سبعة .
وثامنها : الشفع صفات الخلق كالعلم والجهل والقدرة والعجز والإرادة والكراهية والحياة والموت ، أما الوتر فهو صفة الحق وجود بلا عدم ، حياة بلا موت ، علم بلا جهل ، قدرة بلا عجز ، عز بلا ذل .
وتاسعها : المراد بالشفع والوتر : نفس العدد فكأنه أقسم بالحساب الذي لا بد للخلق منه وهو بمنزلة الكتاب والبيان الذي من الله به على العباد إذ قال : ( علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) [ العلق : 5 ، 4 ] ، وقال : ( علمه البيان ) [ الرحمن : 4 ] . وكذلك بالحساب ، يعرف مواقيت العبادات والأيام والشهور ، قال تعالى : ( الشمس والقمر بحسبان ) [ الرحمن : 5 ] وقال : ( لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) [ يونس : 5 ] .
وعاشرها : قال مقاتل الشفع هو الأيام والليالي والوتر هو اليوم الذي لا ليل بعده وهو يوم القيامة .
الحادي عشر : الشفع كل نبي له اسمان مثل محمد وأحمد والمسيح وعيسى ويونس وذي النون والوتر كل نبي له اسم واحد مثل آدم ونوح وإبراهيم .
الثاني عشر : الشفع آدم وحواء ، والوتر مريم .
الثالث عشر : الشفع العيون الاثنتا عشرة التي فجرها الله تعالى لموسى عليه السلام ، والوتر الآيات التسع التي أوتي موسى في قوله : ( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ) [ الإسراء : 101 ] .
الرابع عشر : الشفع أيام عاد ، والوتر لياليهم لقوله تعالى : ( سبع ليال وثمانية أيام حسوما ) [ الحاقة : 7 ] .
الخامس عشر : الشفع البروج الاثنا عشر لقوله تعالى : ( جعل في السماء بروجا ) [ الفرقان : 61 ] والوتر الكواكب السبعة .
السادس عشر : الشفع الشهر الذي يتم ثلاثين يوما ، والوتر الشهر الذي يتم تسعة وعشرين يوما .
السابع عشر : الشفع الأعضاء والوتر القلب ، قال تعالى : ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) .
الثامن عشر : الشفع الشفتان والوتر اللسان قال تعالى : ( ولسانا وشفتين ) [ البلد : 9 ] .
التاسع عشر : الشفع السجدتان والوتر الركوع .
العشرون : الشفع أبواب الجنة لأنها ثمانية ، والوتر أبواب النار لأنها سبعة ، واعلم أن الذي يدل عليه الظاهر ، أن الشفع والوتر أمران شريفان ، أقسم الله تعالى بهما ، وكل هذه الوجوه التي ذكرناها محتمل ، والظاهر لا إشعار له بشيء من هذه الأشياء على التعيين ، فإن ثبت في شيء منها خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع من أهل التأويل حكم بأنه هو المراد ، وإن لم يثبت ، فيجب أن يكون الكلام على طريقة الجواز لا على وجه القطع ، ولقائل أن يقول أيضا : إني أحمل الكلام على الكل لأن الألف واللام في الشفع والوتر تفيد العموم .
أما قوله تعالى : ( والليل إذا يسري ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : ( إذا يسري ) إذا يمضي كما قال : ( والليل إذ أدبر ) [ المدثر : 32 ] وقوله : ( والليل إذا عسعس ) [ التكوير : 17 ] وسراها مضيها وانقضاؤها أو يقال : سراها هو السير فيها ، وقال قتادة : ( إذا يسري ) أي إذا جاء وأقبل .
المسألة الثانية : أكثر المفسرين على أنه ليس المراد منه ليلة مخصوصة بل العموم بدليل قوله : ( والليل إذ أدبر ) ( والليل إذا عسعس ) ولأن واختلاف مقاديرهما على [ ص: 150 ] الخلق عظيمة ، فصح أن يقسم به لأن فيه تنبيها على أن تعاقبهما بتدبير مدبر حكيم عالم بجميع المعلومات ، وقال نعمة الله بتعاقب الليل والنهار مقاتل : هي ليلة المزدلفة فقوله : ( إذا يسري ) أي إذا يسار فيه كما يقال : ليل نائم لوقوع النوم فيه ، وليل ساهر لوقوع السهر فيه ، وهي ليلة يقع السرى في أولها عند الدفع من عرفات إلى المزدلفة ، وفي آخرها كما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقدم ضعفة أهله في هذه الليلة ، وإنما يجوز ذلك عند رحمه الله بعد نصف الليل . الشافعي
المسألة الثالثة : قال الزجاج : قرئ ( إذا يسري ) بإثبات الياء ، ثم قال : وحذفها أحب إلي لأنها فاصلة والفواصل تحذف منها الياءات ، ويدل عليها الكسرات ، قال الفراء : والعرب قد تحذف الياء وتكتفي بكسرة ما قبلها ، وأنشد :
كفاك كف ما يبقي درهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما
فإذا جاز هذا في غير الفاصلة فهو في الفاصلة أولى ، فإن قيل : لم كان الاختيار أن تحذف الياء إذا كان في فاصلة أو قافية ، والحرف من نفس الكلمة ، فوجب أن يثبت كما أثبت سائر الحروف ولم يحذف ؟ أجاب أبو علي فقال : القول في ذلك أن الفواصل والقوافي موضع وقف والوقف موضع تغيير فلما كان الوقف تغير فيه الحروف الصحيحة بالتضعيف والإسكان وروم الحركة فيها غيرت هذه الحروف المشابهة للزيادة بالحذف ، وأما من أثبت الياء في " يسري " في الوصل والوقف فإنه يقول : الفعل لا يحذف منه في الوقف كما يحذف في الأسماء نحو قاض وغاز ، تقول : هو يقضي وأنا أقضي فتثبت الياء ولا تحذف .
وقوله تعالى : ( هل في ذلك قسم لذي حجر ) فيه مسألتان :
المسألة الأولى : الحجر العقل سمي به لأنه يمنع عن الوقوع فيما لا ينبغي كما سمي عقلا ونهية لأنه يعقل ويمنع وحصاة من الإحصاء وهو الضبط ، قال الفراء : والعرب تقول إنه لذو حجر إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها كأنه أخذ من قولهم حجرت على الرجل ، وعلى هذا سمي العقل حجرا لأنه يمنع من القبيح من الحجر وهو المنع من الشيء بالتضييق فيه .
المسألة الثانية : قوله : ( هل في ذلك قسم ) استفهام والمراد منه التأكيد كمن ذكر حجة باهرة ، ثم قال : هل فيما ذكرته حجة ؟ والمعنى أن من كان ذا لب علم أن ما أقسم الله تعالى به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية ، فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه . قال القاضي : وهذه الآية تدل على ما قلنا : أن القسم واقع برب هذه الأمور لأن هذه الآية دالة على أن هذا مبالغة في القسم . ومعلوم أن ، ولأن النهي قد ورد بأن يحلف العاقل بهذه الأمور . المبالغة في القسم لا تحصل إلا في القسم بالله