( ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب )
قوله تعالى : ( ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ) .
اعلم أن : أن يبتدئ بالدعوة إلى عبادة الله ، ثم يتبعه بدعوى النبوة ، لا بد وأن يطلبوا منه المعجزة ، وأمر العادة فيمن يدعي النبوة عند قوم يعبدون الأصنام صالح - عليه السلام - هكذا كان يروى أن قومه خرجوا في عيد لهم ، فسألوه أن يأتيهم بآية ، وأن يخرج لهم من صخرة معينة - أشاروا إليها - ، فدعا ناقة صالح ربه ، فخرجت الناقة كما سألوا .
واعلم أن تلك الناقة كانت معجزة من وجوه :
الأول : أنه تعالى خلقها من الصخرة .
وثانيها : أنه تعالى خلقها في جوف الجبل ثم شق عنها الجبل .
وثالثها : أنه تعالى خلقها حاملا من غير ذكر .
ورابعها : أنه خلقها على تلك الصورة دفعة واحدة من غير ولادة .
وخامسها : ما روي أنه كان لها شرب يوم ، ولكل القوم شرب يوم آخر .
وسادسها : أنه كان يحصل منها لبن كثير يكفي الخلق العظيم ، وكل من هذه الوجوه معجز قوي ، وليس في القرآن ، إلا أن تلك الناقة كانت آية ومعجزة ، فأما بيان أنها كانت معجزة من أي الوجوه ، فليس فيه بيانه .
[ ص: 17 ] ثم قال : ( فذروها تأكل في أرض الله ) والمراد أنه - عليه السلام - رفع عن القوم مؤنتها ، فصارت - مع كونها آية لهم - تنفعهم ولا تضرهم ؛ لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها على ما روي أنه - عليه السلام - خاف عليها منهم لما شاهد من إصرارهم على الكفر ، فإن ، بل يسعى في إخفائها وإبطالها بأقصى الإمكان ؛ فلهذا السبب كان يخاف من إقدامهم على قتلها ؛ فلهذا احتاط وقال : ( الخصم لا يحب ظهور حجة خصمه ولا تمسوها بسوء ) وتوعدهم إن مسوها بسوء بعذاب قريب ، وذلك تحذير شديد لهم من الإقدام على قتلها ، ثم بين الله تعالى أنهم مع ذلك عقروها وذبحوها ، ويحتمل أنهم عقروها لإبطال تلك الحجة ، وأن يكون لأنها ضيقت الشرب على القوم ، وأن يكون لأنهم رغبوا في شحمها ولحمها ، وقوله : ( فيأخذكم عذاب قريب ) يريد اليوم الثالث ، وهو قوله : ( تمتعوا في داركم ) ثم بين تعالى أن صالح - عليه السلام - : ( تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ) ومعنى التمتع : التلذذ بالمنافع والملاذ التي تدرك بالحواس ، ولما كان التمتع لا يحصل إلا للحي ، عبر به عن الحياة ، وقوله : ( القوم عقروها ، فعند ذلك قال لهم في داركم ) فيه وجهان :
الأول : أن المراد من الدار البلد ، وتسمى البلاد بالديار ؛ لأنه يدار فيها ، أي يتصرف ، يقال : ديار بكر أي بلادهم .
الثاني : أن المراد بالديار الدنيا . وقوله : ( ذلك وعد غير مكذوب ) أي غير كذب ، والمصدر قد يرد بلفظ المفعول ؛ كالمجلود ، والمعقول ، و ( بأييكم المفتون ) ، وقيل : غير مكذوب فيه ، قال - رضي الله عنهما - : إنه تعالى لما أمهلهم تلك الأيام الثلاثة فقد رغبهم في الإيمان ؛ وذلك لأنهم لما عقروا الناقة أنذرهم ابن عباس صالح - عليه السلام - بنزول العذاب ، فقالوا : وما علامة ذلك ؟ فقال : تصير وجوهكم في اليوم الأول مصفرة ، وفي الثاني محمرة ، وفي الثالث مسودة ، ثم يأتيكم العذاب في اليوم الرابع ، فلما رأوا وجوههم قد اسودت أيقنوا بالعذاب ، فاحتاطوا واستعدوا للعذاب ، فصبحهم اليوم الرابع وهي الصيحة والصاعقة والعذاب .
فإن قيل : كيف يعقل أن تظهر فيهم هذه العلامات مطابقة لقول صالح - عليه السلام - ، ثم يبقون مصرين على الكفر ؟
قلنا : ما دامت الأمارات غير بالغة إلى حد الجزم واليقين لم يمتنع بقاؤهم على الكفر ، وإذا صارت يقينية قطعية ، فقد انتهى الأمر إلى حد الإلجاء ، والإيمان في ذلك الوقت غير مقبول .