( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب )
قوله تعالى : ( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) .
اعلم أن هذا هو القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة ، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قال النحويون : دخلت كلمة "قد " ههنا ؛ لأن ، وقد للتوقع ، ودخلت اللام في "لقد" لتأكيد الخبر ، ولفظ ( السامع لقصص الأنبياء - عليهم السلام - يتوقع قصة بعد قصة رسلنا ) جمع ، وأقله ثلاثة ، فهذا يفيد القطع بحصول ثلاثة ، وأما الزائد على هذا العدد فلا سبيل إلى إثباته إلا بدليل آخر ، وأجمعوا على أن الأصل فيهم كان جبريل - عليه السلام - ، ثم اختلفت الروايات ، فقيل : أتاه جبريل - عليه السلام - ومعه اثنا عشر ملكا على صورة الغلمان الذين يكونون في غاية الحسن ، وقال الضحاك : كانوا تسعة ، وقال - رضي الله عنهما - : كانوا ثلاثة : ابن عباس جبريل وميكائيل ، وإسرافيل عليهم السلام ، وهم الذين ذكرهم الله في سورة " والذاريات " في قوله : ( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم ) [الذاريات : 24 ] ، وفي الحجر ( ونبئهم عن ضيف إبراهيم ) [الحجر : 51 ] .
المسألة الثانية : اختلفوا في على وجهين : المراد بالبشرى
الأول : أن المراد ما بشره الله بعد ذلك بقوله : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) .
الثاني : أن المراد منه أنه بشر إبراهيم - عليه السلام - بسلامة لوط وبإهلاك قومه .
[ ص: 20 ] وأما قوله : ( قالوا سلاما قال سلام ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : حمزة والكسائي " قالوا سلم قال سلم " بكسر السين وسكون اللام بغير ألف ، وفي "والذاريات" مثله ، قال قرأ الفراء : لا فرق بين القراءتين ، كما قالوا : حل وحلال ، وحرم وحرام ؛ لأن في التفسير أنهم لما جاءوا سلموا عليه ، قال أبو علي الفارسي : ويحتمل أن يكون سلم خلاف العدو والحرب ، كأنهم لما امتنعوا من تناول ما قدمه إليهم نكرهم وأوجس منهم خيفة ، قال : إنا سلم ، ولست بحرب ولا عدو ، فلا تمتنعوا من تناول طعامي كما يمتنع من تناول طعام العدو ، وهذا الوجه عندي بعيد ؛ لأن على هذا التقدير ينبغي أن يكون تكلم إبراهيم - عليه السلام - بهذا اللفظ بعد إحضار الطعام ، إلا أن القرآن يدل على أن هذا الكلام إنما وجد قبل إحضار الطعام ؛ لأنه تعالى قال : ( قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) والفاء للتعقيب ، فدل ذلك على أن مجيئه بذلك العجل الحنيذ كان بعد ذكر السلام .
المسألة الثانية : ( قالوا سلاما ) تقديره : سلمنا عليك سلاما ، قال : " ، أي لست مريدا غير السلامة والصلح ، قال سلام" تقديره : أمري سلام الواحدي : ويحتمل أن يكون المراد : سلام عليكم ، فجاء به مرفوعا حكاية لقوله كما قال ، وحذف عنه الخبر كما حذف من قوله : ( فصبر جميل ) [يوسف : 18 ] وإنما يحسن هذا الحذف إذا كان المقصود معلوما بعد الحذف ، وههنا المقصود معلوم ، فلا جرم حسن الحذف ، ونظيره قوله تعالى : ( فاصفح عنهم وقل سلام ) [الزخرف : 89 ] على حذف الخبر .
واعلم أنه إنما سلم بعضهم على بعض ، رعاية للإذن المذكور في قوله تعالى : ( لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) [النور : 27 ] .
المسألة الثالثة : أكثر ما يستعمل " سلام عليكم " بغير ألف ولام ؛ وذلك لأنه في معنى الدعاء ، فهو مثل قولهم : خير بين يديك .
فإن قيل : كيف جاز ؟ جعل النكرة مبتدأ
قلنا : النكرة إذا كانت موصوفة جاز جعلها مبتدأ ، فإذا قلت : سلام عليكم ، فالتنكير في هذا الموضع يدل على التمام والكمال ، فكأنه قيل : سلام كامل تام عليكم ، ونظيره قولنا : سلام عليك ، وقوله تعالى : ( قال سلام عليك سأستغفر لك ربي ) [مريم : 47 ] وقوله : ( سلام قولا من رب رحيم ) [يس : 58 ] ( سلام على نوح في العالمين ) [الصافات : 79 ] ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم ) [الرعد :23 - 24 ] فأما قوله تعالى : ( والسلام على من اتبع الهدى ) [طه : 47 ] فهذا أيضا جائز ، والمراد منه الماهية والحقيقة .
وأقول : قوله : ( سلام عليكم ) [الرعد : 24 ] أكمل من قوله : السلام عليكم ؛ لأن التنكير في قوله : ( سلام عليكم ) [الرعد : 24 ] يفيد الكمال والمبالغة والتمام ، وأما لفظ "السلام" فإنه لا يفيد إلا الماهية ، قال الأخفش : من العرب من يقول : "سلام عليكم" ، فيعري قوله : "سلام" عن الألف واللام والتنوين ، والسبب في ذلك أن كثرة الاستعمال أباح هذا التخفيف ، والله أعلم .
ثم قال تعالى : ( فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) قالوا : مكث إبراهيم خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف ، فاغتم لذلك ، ثم جاءه الملائكة فرأى أضيافا لم ير مثلهم ، فعجل وجاء بعجل حنيذ ، فقوله : ( فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) معناه : فما لبث في المجيء به ، بل عجل فيه ، أو التقدير : فما لبث مجيئه ، والعجل ولد البقرة . [ ص: 21 ] أما الحنيذ : فهو الذي يشوى في حفرة من الأرض بالحجارة المحماة ، وهو من فعل أهل البادية معروف ، وهو محنوذ في الأصل ، كما قيل : طبيخ ومطبوخ ، وقيل : الحنيذ الذي يقطر دسمه ، يقال : حنذت الفرس ، إذا ألقيت عليه الجل حتى تقطر عرقا .