[ ص: 31 ] ( فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد )
قوله تعالى : ( فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ) .
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في وجهان : الأمر
الأول : أن المراد من هذا الأمر ما هو ضد النهي ، ويدل عليه وجوه :
الأول : أن لفظ الأمر حقيقة في هذا المعنى مجاز في غيره دفعا للاشتراك .
الثاني : أن الأمر لا يمكن حمله ههنا على العذاب ، وذلك لأنه تعالى قال : ( فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها ) وهذا الجعل هو العذاب ، فدلت هذه الآية على أن هذا الأمر شرط ، والعذاب جزاء ، والشرط غير الجزاء ، فهذا الأمر غير العذاب ، وكل من قال بذلك قال : إنه هو الأمر الذي هو ضد النهي .
والثالث : أنه تعالى قال قبل هذه الآية : ( إنا أرسلنا إلى قوم لوط ) [هود : 70 ] فدل هذا على أنهم كانوا مأمورين من عند الله تعالى بالذهاب إلى قوم لوط ، وبإيصال هذا العذاب إليهم .
إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى أمر جمعا من الملائكة بأن يخربوا تلك المدائن في وقت معين ، فلما جاء ذلك الوقت أقدموا على ذلك العمل ، فكان قوله : ( فلما جاء أمرنا ) إشارة إلى ذلك التكليف .
فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال : فلما جاء أمرنا جعلوا عاليها سافلها ؛ لأن الفعل صدر عن ذلك المأمور .
قلنا : هذا لا يلزم على مذهبنا ؛ لأن عندنا ، وأيضا أن الذي وقع منهم إنما وقع بأمر الله تعالى وبقدرته ، فلم يبعد إضافته إلى الله عز وجل ؛ لأن الفعل كما تحسن إضافته إلى المباشر فقد تحسن أيضا إضافته إلى السبب . فعل العبد فعل الله تعالى
القول الثاني : أن يكون المراد من الأمر ههنا قوله تعالى : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [النحل : 40 ] وقد تقدم تفسير ذلك الأمر .
القول الثالث : أن يكون المراد من الأمر العذاب ، وعلى هذا التقدير فيحتاج إلى الإضمار ، والمعنى : ولما جاء وقت عذابنا جعلنا عاليها سافلها .
المسألة الثانية : اعلم أن ذلك العذاب قد وصفه الله تعالى في هذه الآية بنوعين من الوصف :
فالأول : قوله : ( جعلنا عاليها سافلها ) روي أن جبريل - عليه السلام - أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها ، وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير ونباح الكلاب وصياح الديوك ، ولم تنكفئ لهم جرة ولم ينكب لهم إناء ، ثم قلبها دفعة واحدة وضربها على الأرض .
واعلم أن هذا العمل كان معجزة قاهرة من وجهين :
أحدهما : أن قلع الأرض وإصعادها إلى قريب من [ ص: 32 ] السماء فعل خارق للعادات .
والثاني : أن ضربها من ذلك البعد البعيد على الأرض بحيث لم تتحرك سائر القرى المحيطة بها ألبتة ، ولم تصل الآفة إلى لوط - عليه السلام - وأهله مع قرب مكانهم من ذلك الموضع - معجزة قاهرة أيضا .
الثاني : قوله : ( وأمطرنا عليها حجارة من سجيل ) ، واختلفوا في على وجوه : السجيل
الأول : أنه فارسي معرب ، وأصله سنككل ، وأنه شيء مركب من الحجر والطين بشرط أن يكون في غاية الصلابة ، قال الأزهري : لما عربته العرب صار عربيا ، وقد عربت حروفا كثيرة ؛ كالديباج ، والديوان ، والإستبرق .
والثاني : سجيل ، أي مثل السجل وهو الدلو العظيم .
والثالث : سجيل ، أي شديد من الحجارة .
الرابع : مرسلة عليهم من أسجلته إذا أرسلته ، وهو فعيل منه .
الخامس : من أسجلته ، أي أعطيته ، تقديره : مثل العطية في الإدرار ، وقيل : كان كتب عليها أسامي المعذبين .
السادس : وهو من السجل ، وهو الكتاب ، تقديره : من مكتوب في الأزل ، أي كتب الله أن يعذبهم بها ، والسجيل أخذ من السجل ، وهو الدلو العظيمة ؛ لأنه يتضمن أحكاما كثيرة ، وقيل : مأخوذ من المساجلة وهي المفاخرة .
والسابع : من سجيل أي من جهنم ، أبدلت النون لاما .
والثامن : من السماء الدنيا ، وتسمى سجيلا عن أبي زيد .
والتاسع : السجيل الطين ؛ لقوله تعالى : ( حجارة من طين ) [الذاريات : 33 ] وهو قول عكرمة وقتادة ، قال الحسن : كان أصل الحجر هو من الطين ، إلا أنه صلب بمرور الزمان .
والعاشر : سجيل موضع الحجارة ، وهي جبال مخصوصة ، ومنه قوله تعالى : ( من جبال فيها من برد ) [النور : 43 ] .
واعلم أنه تعالى : وصف تلك الحجارة بصفات
فالصفة الأولى : كونها من سجيل ، وقد سبق ذكره .
الصفة الثانية : قوله تعالى : ( منضود ) قال الواحدي : هو مفعول من النضد ، وهو موضع الشيء بعضه على بعض ، وفيه وجوه :
الأول : أن تلك الحجارة كان بعضها فوق بعض في النزول ، فأتي به على سبيل المبالغة .
والثاني : أن كل حجر فإن ما فيه من الأجزاء منضود بعضها ببعض ، وملتصق بعضها ببعض .
والثالث : أنه تعالى كان قد خلقها في معادنها ، ونضد بعضها فوق بعض ، وأعدها لإهلاك الظلمة .
واعلم أن قوله : ( منضود ) صفة للسجيل .
الصفة الثالثة : مسومة ، وهذه الصفة صفة للأحجار ، ومعناها المعلمة ، وقد مضى الكلام فيه في تفسير قوله : ( والخيل المسومة ) [آل عمران : 14 ] واختلفوا في كيفية تلك العلامة على وجوه :
الأول : قال الحسن والسدي : كان عليها أمثال الخواتيم .
الثاني : قال ابن صالح : رأيت منها عند حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع . أم هانئ
الثالث : قال : كان عليها سيما لا تشارك حجارة الأرض ، وتدل على أنه تعالى إنما خلقها للعذاب . ابن جريج
الرابع : قال الربيع : مكتوب على كل حجر اسم من رمي به .
ثم قال تعالى : ( عند ربك ) أي في خزائنه التي لا يتصرف فيها أحد إلا هو .
ثم قال : ( وما هي من الظالمين ببعيد ) يعني به كفار مكة ، والمقصود أنه تعالى يرميهم بها ، عن أنس أنه قال : سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - عن هذا ، فقال : يعني عن ظالمي أمتك ، ما من ظالم منهم إلا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة ، وقيل : الضمير في قوله : ( وما هي ) للقرى . أي وما تلك [ ص: 33 ] القرى التي وقعت فيها هذه الواقعة من كفار مكة ببعيد ؛ وذلك لأن القرى كانت في الشأم ، وهي قريب من مكة .