( وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون )
قوله تعالى : ( وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون ) .
[ ص: 65 ] اعلم أنه تعالى لما بلغ الغاية في الإعذار والإنذار ، والترغيب والترهيب ، أتبع ذلك بأن قال للرسول : ( وقل للذين لا يؤمنون ) ولم تؤثر فيهم هذه البيانات البالغة ( اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ) وهذا عين ما حكاه الله تعالى عن شعيب عليه السلام أنه قاله لقومه ، والمعنى : افعلوا كل ما تقدرون عليه في حقي من الشر ، فنحن أيضا عاملون . وقوله : ( اعملوا ) وإن كانت صيغته صيغة الأمر ، إلا أن المراد منها التهديد ، كقوله تعالى لإبليس : ( واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ) [ الإسراء : 64 ] وكقوله : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) [ الكهف : 29 ] وانتظروا ما يعدكم الشيطان من الخذلان ، فإنا منتظرون ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان . قال رضي الله عنهما : ( ابن عباس وانتظروا ) الهلاك فإنا منتظرون لكم العذاب . ثم إنه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشريفة المقدسة فقال : ( ولله غيب السماوات والأرض ) .
واعلم أن مجموع ما يحتاج الإنسان إلى معرفته أمور ثلاثة ، وهي : الماضي والحاضر والمستقبل . أما الماضي فهو أن يعرف الموجود الذي كان موجودا قبله ، وذلك الموجود المتقدم عليه هو الذي نقله من العدم إلى الوجود ، وذلك هو الإله تعالى وتقدس .
واعلم أن حقيقة ذات الإله وكنه هويته غير معلومة للبشر البتة ، وإنما المعلوم للبشر صفاته ، ثم إن صفاته قسمان : صفات الجلال ، وصفات الإكرام . أما ، فهي سلوب ، كقولنا : إنه ليس بجوهر ولا جسم ، ولا كذا ولا كذا . وهذه السلوب في الحقيقة ليست صفات الكمال ، لأن السلوب عدم ، والعدم المحض والنفي الصرف لا كمال فيه ، فقولنا لا تأخذه سنة ولا نوم إنما أفاد الكمال ؛ لدلالته على العلم المحيط الدائم المبرأ عن التغير ، ولولا ذلك كان عدم النوم ليس يدل على كمال أصلا ، ألا ترى أن الميت والجماد لا تأخذه سنة ولا نوم ! وقوله : ( صفات الجلال وهو يطعم ولا يطعم ) [ الأنعام : 14 ] إنما أفاد الجلال والكمال والكبرياء ، لأن قوله : ( ولا يطعم ) [ الأنعام : 14 ] يفيد كونه واجب الوجود لذاته غنيا عن الطعام والشراب بل عن كل ما سواه ، فثبت أن والعز والعلو هي الصفات الثبوتية ، وأشرف الصفات الثبوتية الدالة على الكمال والجلال صفتان : العلم والقدرة ، فلهذا السبب وصف الله تعالى ذاته في هذه الآية بهما في معرض التعظيم والثناء والمدح . صفات الكمال
أما صفة العلم فقوله : ( ولله غيب السماوات والأرض ) والمراد أن والمعدومات والموجودات والحاضرات والغائبات . وتمام البيان والشرح في دلالة هذا اللفظ على نهاية الكمال ما ذكرناه في تفسير قوله سبحانه وتعالى : ( علمه نافذ في جميع الكليات والجزئيات وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) [ الأنعام : 59 ] . وأما ، فقوله : ( صفة القدرة وإليه يرجع الأمر كله ) والمراد أن مرجع الكل إليه ، وإنما يكون كذلك لو كان مصدر الكل ومبدأ الكل هو هو ، والذي يكون مبدأ لجميع الممكنات وإليه يكون مرجع كل المحدثات والكائنات ، كان عظيم القدرة نافذ المشيئة قهارا للعدم بالوجود والتحصيل ، جبارا له بالقوة والفعل والتكميل ، فهذان الوصفان هما المذكوران في شرح جلال المبدأ ونعت كبريائه .
والمرتبة الثانية من المراتب التي يجب على الإنسان كونه عالما بها : أن يعرف ما هو مهم له في زمان حياته في الدنيا ، وما ذلك إلا تكميل النفس بالمعارف الروحانية والجلايا القدسية ، وهذه المرتبة لها بداية ونهاية . أما بدايتها فالاشتغال بالعبادات الجسدانية والروحانية . أما العبادات الجسدانية ، فأفضل الحركات [ ص: 66 ] الصلاة ، وأكمل السكنات الصيام ، وأنفع البر الصدقة .
وأما العبادة الروحانية فهي : الفكر ، والتأمل في عجائب صنع الله تعالى في ملكوت السماوات والأرض ، كما قال تعالى : ( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) [ آل عمران : 191 ] وأما نهاية هذه المرتبة ، فالانتهاء من الأسباب إلى مسببها ، وقطع النظر عن كل الممكنات والمبدعات ، وتوجيه حدقة العقل إلى نور عالم الجلال ، واستغراق الروح في أضواء عالم الكبرياء ، ومن وصل إلى هذه الدرجة رأى كل ما سواه مهرولا تائها في ساحة كبريائه هالكا فانيا في فناء سناء أسمائه .
وحاصل الكلام : أن ، فلهذا السبب قال : ( أول درجات السير إلى الله تعالى هو عبودية الله ، وآخرها التوكل على الله فاعبده وتوكل عليه ) .
والمرتبة الثالثة من المراتب المهمة لكل عامل : معرفة المستقبل ، وهو أنه يعرف كيف يصير حاله بعد انقضاء هذه الحياة الجسمانية ، وهل لأعماله أثر في السعادة والشقاوة ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( وما ربك بغافل عما تعملون ) والمقصود أنه لا يضيع طاعات المطيعين ولا يهمل أحوال المتمردين الجاحدين ، وذلك بأن يحضروا في موقف القيامة ويحاسبوا على النقير والقطمير ، ويعاتبوا في الصغير والكبير ، ثم يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنة وفريق في السعير ، فظهر أن هذه الآية وافية بالإشارة إلى جميع المطالب العلوية ، والمقاصد القدسية ، وأنه ليس وراءها للعقول مرتقى ولا للخواطر منتهى ، والله الهادي للصواب .
تمت السورة بحمد الله وعونه ، وقد وجد بخط المصنف رضي الله عنه في النسخة المنتقل منها : تم تفسير هذه السورة قبل طلوع الصبح ليلة الاثنين من شهر رجب ختمه الله بالخير والبركة سنة إحدى وستمائة ، وقد كان لي ولد صالح السيرة فتوفي في الغربة في عنفوان شبابه ، وكان قلبي كالمحترق لذلك السبب ، فأنا أنشد الله إخواني في الدين وشركائي في طلب اليقين وكل من نظر في هذا الكتاب وانتفع به أن يذكر ذلك الشاب بالرحمة والمغفرة ، وأن يذكر هذا المسكين بالدعاء وهو يقول : ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) [ آل عمران : 8 ] وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم .