( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين )
[ ص: 74 ] قوله تعالى : ( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين ) .
في هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذكر صاحب الكشاف أسماء إخوة يوسف : يهودا ، روبيل ، شمعون ، لاوي ، ربالون ، يشجر ، دينة ، دان ، نفتالي ، جاد ، آشر . ثم قال : السبعة الأولون من ليا بنت خالة يعقوب ، والأربعة الآخرون من سريتين ; زلفة وبلهة ، فلما توفيت ليا تزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف .
المسألة الثانية : قوله : ( آيات للسائلين ) قرأ ابن كثير " آية " بغير ألف حمله على شأن يوسف ، والباقون " آيات " على الجمع لأن أمور يوسف كانت كثيرة وكل واحد منها آية بنفسه .
المسألة الثالثة : ذكروا في تفسير قوله تعالى : ( آيات للسائلين ) وجوها :
الأول : قال : ابن عباس دخل حبر من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع منه قراءة يوسف فعاد إلى اليهود فأعلمهم أنه سمعها منه كما هي في التوراة ، فانطلق نفر منهم فسمعوا كما سمع ، فقالوا له : من علمك هذه القصة ؟ فقال : الله علمني ، فنزل : ( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ) وهذا الوجه عندي بعيد ، لأن المفهوم من الآية أن يوسف آيات للسائلين ، وعلى هذا الوجه الذي نقلناه ما كانت الآيات في قصة في واقعة يوسف ، بل كانت الآيات في إخبار محمد صلى الله عليه وسلم عنها من غير سبق تعلم ولا مطالعة ، وبين الكلامين فرق ظاهر .
والثاني : أن أهل مكة أكثرهم كانوا أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام وكانوا ينكرون نبوته ويظهرون العداوة الشديدة معه بسبب الحسد ، فذكر الله تعالى هذه القصة وبين أن إخوة يوسف بالغوا في إيذائه لأجل الحسد ، وبالآخرة فإن الله تعالى نصره وقواه وجعلهم تحت يده ورايته ، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل كانت زجرا له عن الإقدام على الحسد .
والثالث : أن يعقوب لما عبر رؤيا يوسف وقع ذلك التعبير ودخل في الوجود بعد ثمانين سنة فكذلك إن الله تعالى لما وعد محمدا عليه الصلاة والسلام بالنصر والظفر على الأعداء ، فإذا تأخر ذلك الموعود مدة من الزمان لم يدل ذلك على كون محمد عليه الصلاة والسلام كاذبا فيه ، فذكر هذه القصة نافع من هذا الوجه .
الرابع : أن إخوة يوسف بالغوا في إبطال أمره ، ولكن الله تعالى لما وعده بالنصر والظفر كان الأمر كما قدره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء ، فكذلك واقعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن الله لما ضمن له إعلاء الدرجة لم يضره سعي الكفار في إبطال أمره .
وأما قوله : ( للسائلين ) فاعلم أن هذه القصة فيها آيات كثيرة لمن سأل عنها ، وهو كقوله تعالى : ( في أربعة أيام سواء للسائلين ) .
ثم قال تعالى : ( إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله : ( ليوسف ) اللام لام الابتداء ، وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة . أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر ثابت لا شبهة فيه . وأخوه هو بنيامين ، وإنما قالوا أخوه وهم جميعا إخوة ; لأن أمهما كانت واحدة . والعصبة والعصابة العشرة فصاعدا ، وقيل إلى الأربعين ، سموا بذلك لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ، ونقل عن علي عليه السلام أنه قرأ " ونحن عصبة " بالنصب ، قيل : معناه ونحن نجتمع عصبة .
المسألة الثانية : المراد منه بيان السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف ، وذلك أن يعقوب كان يفضل [ ص: 75 ] يوسف وأخاه على سائر الأولاد في الحب وأنهم تأذوا منه لوجوه :
الأول : أنهم كانوا أكبر سنا منهما .
وثانيها : أنهم كانوا أكثر قوة وأكثر قياما بمصالح الأب منهما .
وثالثها : أنهم قالوا إنا نحن القائمون بدفع المفاسد والآفات ، والمشتغلون بتحصيل المنافع والخيرات .
إذا ثبت ما ذكرناه من كونهم متقدمين على يوسف وأخيه في هذه الفضائل ، ثم إنه عليه السلام كان يفضل يوسف وأخاه عليهم ، لا جرم قالوا : ( إن أبانا لفي ضلال مبين ) يعني هذا حيف ظاهر وضلال بين . وههنا سؤالات :
السؤال الأول : إن من الأمور المعلومة أن يورث الحقد والحسد ، ويورث الآفات ، فلما كان تفضيل بعض الأولاد على بعض يعقوب عليه السلام عالما بذلك فلم أقدم على هذا التفضيل ؟ وأيضا الأسن والأعلم والأنفع أفضل ، فلم قلب هذه القضية ؟
والجواب : أنه عليه السلام ما فضلهما على سائر الأولاد إلا في المحبة ، والمحبة ليست في وسع البشر فكان معذورا فيه ولا يلحقه بسبب ذلك لوم .
السؤال الثاني : أن أولاد يعقوب عليه السلام إن كانوا قد آمنوا بكونه رسولا حقا من عند الله تعالى فكيف اعترضوا عليه ، وكيف زيفوا طريقته وطعنوا في فعله ؟ وإن كانوا مكذبين لنبوته ، فهذا يوجب كفرهم .
والجواب : أنهم كانوا مؤمنين بنبوة أبيهم مقرين بكونه رسولا حقا من عند الله تعالى ، إلا أنهم لعلهم جوزوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يفعلوا أفعالا مخصوصة بمجرد الاجتهاد ، ثم إن اجتهادهم أدى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد ، وذلك لأنهم كانوا يقولون هما صبيان ما بلغا العقل الكامل ونحن متقدمون عليهما في السن والعقل والكفاية والمنفعة وكثرة الخدمة والقيام بالمهمات ، وإصراره على تقديم يوسف علينا يخالف هذا الدليل . وأما يعقوب عليه السلام فلعله كان يقول : زيادة المحبة ليست في الوسع والطاقة ، فليس لله علي فيه تكليف . وأما تخصيصهما بمزيد البر فيحتمل أنه كان لوجوه :
أحدها : أن أمهما ماتت وهما صغار .
وثانيها : لأنه كان يرى فيه من آثار الرشد والنجابة ما لم يجد في سائر الأولاد .
وثالثها : لعله عليه السلام وإن كان صغيرا إلا أنه كان يخدم أباه بأنواع من الخدم أشرف وأعلى بما كان يصدر عن سائر الأولاد .
والحاصل أن هذه المسألة كانت اجتهادية ، وكانت مخلوطة بميل النفس وموجبات الفطرة ، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخر أو في عرضه .
السؤال الثالث : أنهم نسبوا أباهم إلى الضلال المبين ، وذلك مبالغة في الذم والطعن ، ومن بالغ في الطعن في الرسول كفر ، لا سيما إذا كان الطاعن ولدا فإن حق الأبوة يوجب مزيد التعظيم .
والجواب : المراد منه الضلال عن رعاية المصالح في الدنيا لا البعد عن طريق الرشد والصواب .
السؤال الرابع : أن قولهم : ( ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ) محض الحسد ، ، لا سيما وقد أقدموا على الكذب بسبب ذلك الحسد ، وعلى تضييع ذلك الأخ الصالح وإلقائه في ذل العبودية وتبعيده عن الأب المشفق ، وألقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم ، وأقدموا على الكذب فما بقيت خصلة مذمومة ولا طريقة في الشر والفساد إلا وقد أتوا بها ، وكل ذلك يقدح في العصمة والنبوة . والحسد من أمهات الكبائر
والجواب : الأمر كما ذكرتم ، إلا أن المعتبر عندنا عصمة الأنبياء عليهم السلام في وقت حصول النبوة . وأما قبلها فذلك غير واجب ، والله أعلم .