ثم قال تعالى : ( وجاءوا على قميصه بدم كذب ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إنما جاءوا بهذا القميص الملطخ بالدم ليوهم كونهم صادقين في مقالتهم . قيل : ذبحوا جديا ولطخوا ذلك القميص بدمه . قال القاضي : ولعل غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في غيابة الجب أن يفعلوا هذا توكيدا لصدقهم ، لأنه يبعد أن يفعلوا ذلك طمعا في نفس القميص ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان ، فلو خرقوه مع لطخه بالدم لكان الإيهام أقوى ، فلما شاهد القميص صحيحا علم كذبهم .
المسألة الثانية : قوله : ( وجاءوا على قميصه ) أي وجاءوا فوق قميصه بدم كما يقال : جاءوا على جمالهم بأحمال .
المسألة الثالثة : قال أصحاب العربية وهم الفراء والمبرد والزجاج : ( وابن الأنباري بدم كذب ) أي مكذوب فيه ، إلا أنه وصف بالمصدر على تقدير دم ذي كذب ولكنه جعل نفسه كذبا للمبالغة ، قالوا : والمفعول والفاعل يسميان بالمصدر كما يقال : ماء سكب ، أي مسكوب ، ودرهم ضرب الأمير وثوب نسج اليمن ، والفاعل كقوله : ( إن أصبح ماؤكم غورا ) [ الملك : 30 ] ورجل عدل وصوم ، ونساء نوح ; ولما سميا بالمصدر سمي المصدر أيضا بهما فقالوا للعقل المعقول ، وللجلد المجلود ، ومنه قوله تعالى ( بأييكم المفتون ) [ القلم : 6 ] وقوله : ( إذا مزقتم كل ممزق ) [ سبأ : 7 ] قال : الشعبي يوسف كلها في قميصه ، وذلك لأنهم لما ألقوه في الجب نزعوا قميصه ولطخوه بالدم وعرضوه على أبيه ، ولما شهد الشاهد قال : ( قصة إن كان قميصه قد من قبل ) [ يوسف : 26 ] ولما أتي بقميصه إلى يعقوب عليه السلام فألقي على وجهه ارتد بصيرا . ثم ذكر تعالى أن إخوة يوسف لما ذكروا ذلك الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم قال يعقوب عليه السلام : ( بل سولت لكم أنفسكم أمرا ) .
قال : معناه : بل زينت لكم أنفسكم أمرا . والتسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه ، قال ابن عباس الأزهري : كأن التسويل تفعيل من سؤال الإنسان ، وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره . وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمز . وقال صاحب الكشاف : " سولت " سهلت من السول وهو الاسترخاء .
إذا عرفت هذا فنقول : قوله ( بل ) رد لقولهم : ( أكله الذئب ) كأنه قال : ليس كما تقولون : ( بل سولت لكم أنفسكم ) في شأنه ( أمرا ) أي زينت لكم أنفسكم أمرا غير ما تصفون ، واختلفوا في السبب الذي به عرف كونهم كاذبين على وجوه :
الأول : أنه عرف ذلك بسبب أنه كان يعرف الحسد الشديد في قلوبهم .
والثاني : أنه كان عالما بأنه حي لأنه عليه الصلاة والسلام قال ليوسف : ( وكذلك يجتبيك ربك ) [ يوسف : 6 ] [ ص: 83 ] وذلك دليل قاطع على أنهم كاذبون في ذلك .
القول الثالث : قال : لما جاءوا على قميصه بدم كذب ، وما كان متخرقا ، قال : كذبتم لو أكله الذئب لخرق قميصه ، وعن سعيد بن جبير السدي أنه قال : إن يعقوب عليه السلام قال : إن هذا الذئب كان رحيما ، فكيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه ؟ وقيل : إنه عليه السلام لما قال ذلك قال بعضهم : بل قتله اللصوص . فقال : كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منه إلى قتله ؟ فلما اختلفت أقوالهم عرف بسبب ذلك كذبهم .