( وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم )
قوله تعالى : ( وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في هذا الملك فمنهم من قال : هو العزيز ، ومنهم من قال : بل هو الريان الذي هو الملك الأكبر ، وهذا هو الأظهر لوجهين :
الأول : أن قول يوسف : ( اجعلني على خزائن الأرض ) يدل عليه .
الثاني : أن قوله : ( أستخلصه لنفسي ) يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصا له ، وقد كان يوسف عليه السلام قبل ذلك خالصا للعزيز ، فدل هذا على أن هذا الملك هو الملك الأكبر . [ ص: 127 ]
المسألة الثانية : ذكروا أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام وهو في الحبس وقال : ( قل اللهم اجعل لي من عندك فرجا ومخرجا ، وارزقني من حيث لا أحتسب ) فقبل الله دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن .
وتقرير الكلام : أن يوسف لوجوه : الملك عظم اعتقاده في
أحدها : أنه عظم اعتقاده في علمه ، وذلك لأنه لما عجز القوم عن الجواب وقدر هو على الجواب الموافق الذي يشهد العقل بصحته مال الطبع إليه .
وثانيها : أنه عظم اعتقاده في صبره وثباته ، وذلك لأنه بعد أن بقي في السجن بضع سنين لما أذن له في الخروج ما أسرع إلى الخروج ، بل صبر وتوقف وطلب أولا ما يدل على براءة حاله عن جميع التهم .
وثالثها : أنه عظم اعتقاده في حسن أدبه ، وذلك لأنه اقتصر على قوله : ( ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ) ( يوسف : 50 ) وإن كان غرضه ذكر امرأة العزيز فستر ذكرها ، وتعرض لأمر سائر النسوة مع أنه وصل إليه من جهتها أنواع عظيمة من البلاء ، وهذا من الأدب العجيب .
ورابعها : براءة حاله عن جميع أنواع التهم ، فإن الخصم أقر له بالطهارة والنزاهة والبراءة عن الجرم .
وخامسها : أن الشرابي وصف له جده في الطاعات واجتهاده في الإحسان إلى الذين كانوا في السجن .
وسادسها : أنه بقي في السجن بضع سنين .
وهذه الأمور كل واحد منها يوجب حسن الاعتقاد في الإنسان ، فكيف مجموعها ؟ فلهذا السبب حسن اعتقاد الملك فيه ، وإذا أراد الله شيئا جمع أسبابه وقواها .
إذا عرفت هذا فنقول : لما ظهر للملك هذه الأحوال من يوسف عليه السلام رغب أن يتخذه لنفسه فقال : ( ائتوني به أستخلصه لنفسي ) روي أن الرسول قال ليوسف عليه السلام : قم إلى الملك متنظفا من درن السجن بالثياب النظيفة والهيئة الحسنة ؛ فكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى ، وقبور الأحياء ، وشماتة الأعداء ، وتجربة الأصدقاء ، ولما دخل عليه قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ، ثم دخل عليه وسلم ، ودعا له بالعبرانية .
والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الاشتراك ، وهذا الملك طلب أن يكون يوسف له وحده ، وأنه لا يشاركه فيه غيره ؛ لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة الرفيعة ، فلما علم الملك أنه وحيد زمانه وفريد أقرانه ؛ أراد أن ينفرد به .
روي أن الملك قال ليوسف عليه السلام : ما من شيء إلا وأحب أن تشركني فيه إلا في أهلي وفي أن لا تأكل معي ، فقال يوسف عليه السلام : أما ترى أن آكل معك ، وأنا يوسف بن يعقوب بن إسحاق الذبيح ابن إبراهيم الخليل عليه السلام ؟ ثم قال : ( فلما كلمه ) وفيه قولان :
أحدهما : أن المراد فلما كلم الملك يوسف عليه السلام ، قالوا : لأن في مجالس الملوك لا يحسن لأحد أن يبتدئ بالكلام ، وإنما الذي يبتدئ به هو الملك .
والثاني : أن المراد : فلما كلم يوسف الملك ، قيل : لما صار يوسف إلى الملك وكان ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة ، فلما رآه الملك حدثا شابا قال للشرابي : هذا هو الذي علم تأويل رؤياي مع أن السحرة والكهنة ما علموها ؟ قال : نعم . فأقبل على يوسف ، وقال : إني أحب أن أسمع تأويل الرؤيا منك شفاها ، فأجاب بذلك الجواب شفاها وشهد قلبه بصحته ، فعند ذلك قال له : ( إنك اليوم لدينا مكين أمين ) يقال : فلان مكين عند فلان بين المكانة أي المنزلة ، وهي حالة يتمكن بها صاحبها مما يريد .
وقوله : ( أمين ) أي قد عرفنا أمانتك وبراءتك مما نسبت إليه .
واعلم أن قوله : ( مكين أمين ) كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب ، وذلك لأنه لا بد [ ص: 128 ] في . كونه مكينا من القدرة والعلم
أما القدرة فلأن بها يحصل المكنة ، وأما العلم فلأن كونه متمكنا من أفعال الخير لا يحصل إلا به إذ لو لم يكن عالما بما ينبغي وبما لا ينبغي لا يمكنه تخصيص ما ينبغي بالفعل ، وتخصيص ما لا ينبغي بالترك ، فثبت أن كونه مكينا لا يحصل إلا بالقدرة والعلم .
أما كونه أمينا فهو عبارة عن كونه حكيما لا يفعل الفعل لداعي الشهوة بل إنما يفعله لداعي الحكمة ، فثبت أن كونه مكينا أمينا يدل على كونه قادرا ، وعلى كونه عالما بمواقع الخير والشر والصلاح والفساد ، وعلى كونه بحيث يفعل لداعي الحكمة لا لداعية الشهوة ، وكل من كان كذلك فإنه لا يصدر عنه فعل الشر والسفه ؛ فلهذا المعنى لما حاولت المعتزلة إثبات أنه تعالى لا يفعل القبيح قالوا : إنه تعالى لا يفعل القبيح ؛ لأنه تعالى عالم بقبح القبيح ، عالم بكونه غنيا عنه ، وكل من كان كذلك لم يفعل القبيح .
قالوا : وإنما يكون غنيا عن القبيح إذا كان قادرا ، وإذا كان منزها عن داعية السفه ، فثبت أن وصفه بكونه مكينا أمينا نهاية ما يمكن ذكره في هذا الباب ثم حكى تعالى أن يوسف عليه السلام قال في هذا المقام : ( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال المفسرون : لما عبر يوسف عليه السلام رؤيا الملك بين يديه قال له الملك : فما ترى أيها الصديق ؟ قال : أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا ، وتبني الخزائن ، وتجمع فيها الطعام ، فإذا جاءت السنون المجدبة ؛ بعنا الغلات فيحصل بهذا الطريق مال عظيم ، فقال الملك : ومن لي بهذا الشغل ؟ فقال يوسف : ( اجعلني على خزائن الأرض ) أي على خزائن أرض مصر ، وأدخل الألف واللام على الأرض ، والمراد منه المعهود السابق .
روى رضي الله عنهما ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية ، أنه قال : ابن عباس رحم الله أخي يوسف ، لو لم يقل : اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ، لكنه لما قال ذلك أخره عنه سنة . .
وأقول : هذا من العجائب لأنه لما تأبى عن الخروج من السجن سهل الله عليه ذلك على أحسن الوجوه ، ولما تسارع في ذكر الالتماس أخر الله تعالى ذلك المطلوب عنه ، وهذا يدل على أن . ترك التصرف والتفويض بالكلية إلى الله تعالى أولى
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : يوسف الإمارة ، : "لا تسأل الإمارة" لعبد الرحمن بن سمرة ؟ وأيضا فكيف طلب الإمارة من سلطان كافر ؟ والنبي عليه الصلاة والسلام قال وأيضا لم لم يصبر مدة ؟ ولم أظهر الرغبة في طلب الإمارة في الحال ؟ وأيضا لم طلب أمر الخزائن في أول الأمر ، مع أن هذا يورث نوع تهمة ؟ وأيضا كيف جوز من نفسه مدح نفسه بقوله : ( لم طلب إني حفيظ عليم ) ؟ مع أنه تعالى يقول : ( فلا تزكوا أنفسكم ) ( النجم : 32 ) وأيضا فما الفائدة في قوله : ( إني حفيظ عليم ) وأيضا لم ترك الاستثناء في هذا ؟ فإن الأحسن أن يقول : إني حفيظ عليم إن شاء الله ، بدليل قوله تعالى : ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ) ( الكهف : 23 ، 24 ) فهذه أسئلة سبعة لا بد من جوابها فنقول : الأصل في جواب هذه المسائل أن التصرف في أمور الخلق كان واجبا عليه ، فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان ، إنما قلنا : إن ذلك التصرف كان واجبا عليه لوجوه :
الأول : أنه كان رسولا حقا من الله تعالى إلى الخلق ، . والرسول يجب عليه رعاية مصالح الأمة بقدر الإمكان
والثاني : وهو أنه عليه السلام علم بالوحي أنه سيحصل القحط ، والضيق الشديد الذي ربما أفضى إلى هلاك الخلق العظيم ، فلعله تعالى أمره بأن يدبر في ذلك ويأتي بطريق لأجله يقل ضرر ذلك القحط في حق الخلق .
والثالث : أن السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ، ودفع الضرر عنهم أمر مستحسن في العقول . [ ص: 129 ]
وإذا ثبت هذا فنقول : إنه عليه السلام كان مكلفا برعاية مصالح الخلق من هذه الوجوه ، وما كان يمكنه رعايتها إلا بهذا الطريق ، وما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب ، فكان هذا الطريق واجبا عليه ولما كان واجبا سقطت الأسئلة بالكلية ، وأما ترك الاستثناء فقال الواحدي : كان ذلك من خطيئة أوجبت عقوبة وهي أنه تعالى أخر عنه حصول ذلك المقصود سنة ، وأقول : لعل السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء لاعتقد فيه الملك أنه إنما ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي ، فلأجل هذا المعنى ترك الاستثناء ، وأما قوله لم مدح نفسه ؟ فجوابه من وجوه :
الأول : لا نسلم أنه مدح نفسه ، لكنه بين كونه موصوفا بهاتين الصفتين النافعتين في حصول هذا المطلوب ، وبين البابين فرق وكأنه قد غلب على ظنه أنه يحتاج إلى ذكر هذا الوصف لأن الملك وإن علم كماله في علوم الدين لكنه ما كان عالما بأنه يفي بهذا الأمر ، ثم نقول : هب أنه مدح نفسه إلا أن مدح النفس إنما يكون مذموما إذا قصد الرجل به التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل ، فأما على غير هذا الوجه فلا نسلم أنه محرم فقوله تعالى : ( فلا تزكوا أنفسكم ) ( النجم : 32 ) المراد منه تزكية النفس حال ما يعلم كونها غير متزكية ، والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية : ( هو أعلم بمن اتقى ) أما إذا كان الإنسان عالما بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه والله أعلم .
قوله : ما ؟ الفائدة في وصفه نفسه بأنه حفيظ عليم
قلنا : إنه جار مجرى أن يقول : حفيظ بجميع الوجوه التي منها يمكن تحصيل الدخل والمال ، عليم بالجهات التي تصلح لأن يصرف المال إليها . ويقال : حفيظ بجميع مصالح الناس ، عليم بجهات حاجاتهم . أو يقال : حفيظ لوجوه أياديك وكرمك ، عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والخضوع وهذا باب واسع يمكن تكثيره لمن أراده .