المسألة الأولى : قال يقال : ما زلت أفعله ، وما فتئت أفعله ، وما برحت أفعله ، ولا يتكلم بهن إلا مع الجحد . ابن السكيت
قال : يقال : ما فتيت وما فتئت لغتان فتيا وفتؤا إذا نسيته وانقطعت عنه ، قال النحويون : وحرف النفي ههنا مضمر على معنى قالوا : ما تفتؤ ولا تفتؤ ، وجاز حذفه لأنه لو أريد الإثبات ؛ لكان باللام والنون نحو : والله لتفعلن ، فلما كان بغير اللام والنون ؛ عرف أن كلمة لا مضمرة ، وأنشدوا قول ابن قتيبة امرئ القيس :
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
والمعنى : لا أبرح قاعدا ، ومثله كثير .
وأما المفسرون فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة : لا تزال تذكره ، وعن : لا تفتر من حبه ، كأنه جعل الفتور والفتوء أخوين . مجاهد
المسألة الثانية : حكى الواحدي عن أهل المعاني أن أصل الحرض فساد الجسم والعقل للحزن والحب ، وقوله : حرضت فلانا على فلان تأويله : أفسدته ، وأحميته عليه ، وقال تعالى : ( حرض المؤمنين على القتال ) ( الأنفال : 65 ) .
إذا عرفت هذا فنقول : وصف الرجل بأنه حرض إما أن يكون لإرادة أنه ذو حرض فحذف المضاف ، أو لإرادة أنه لما تناهى في الفساد والضعف فكأنه صار عين الحرض ونفس الفساد .
وأما الحرض بكسر الراء فهو الصفة ، وجاءت القراءة بهما معا .
إذا عرفت هذا فنقول : للمفسرين فيه عبارات :
أحدها : الحرض والحارض هو الفاسد في جسمه وعقله .
وثانيهما : سأل نافع بن الأزرق عن الحرض ، فقال : الفاسد الدنف . ابن عباس
وثالثها : أنه الذي يكون لا كالأحياء ولا كالأموات ، وذكر أبو روق أن قرأ : ( حتى تكون حرضا ) بضم الحاء وتسكين الراء ، قال : يعني مثل عود الأشنان ، وقوله : ( أنس بن مالك أو تكون من الهالكين ) أي من الأموات ، ومعنى الآية أنهم قالوا لأبيهم : إنك لا تزال تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه ، أو تموت من الغم ، كأنهم قالوا : أنت الآن في بلاء شديد ، ونخاف أن يحصل ما هو أزيد منه وأقوى ، وأرادوا بهذا القول منعه عن كثرة البكاء والأسف .
فإن قيل : لم حلفوا على ذلك مع أنهم لم يعلموا ذلك قطعا ؟
قلنا : إنهم بنوا هذا الأمر على الظاهر .
فإن قيل : القائلون بهذا الكلام وهو قوله : ( تالله تفتأ ) من هم ؟
قلنا : الأظهر أن هؤلاء ليسوا هم الإخوة الذين قد تولى عنهم ، بل الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاد أولاده وخدمه . [ ص: 158 ]
ثم حكى تعالى عن يعقوب عليه السلام أنه قال : ( قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) يعني أن هذا الذي أذكره لا أذكره معكم ، وإنما أذكره في حضرة الله تعالى ، كما قال عليه الصلاة والسلام : والإنسان إذا بث شكواه إلى الله تعالى كان في زمرة المحققين والله هو الموفق ، والبث هو التفريق ، قال الله تعالى : ( أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من غضبك ، وأعوذ بك منك وبث فيها من كل دابة ) ( البقرة : 164 ) .
فالحزن إذا ستره الإنسان كان هما ، وإذا ذكره لغيره كان بثا ، وقالوا : البث أشد الحزن ، والحزن أشد الهم ، وذلك لأنه متى أمكنه أن يمسك لسانه عن ذكره لم يكن ذلك الحزن مستوليا عليه ، وأما إذا عظم وعجز الإنسان عن ضبطه وانطلق اللسان بذكره شاء أم أبى ، كان ذلك بثا ، وذلك يدل على أن الإنسان صار عاجزا عنه ، وهو قد استولى على الإنسان ، فقوله : ( بثي وحزني إلى الله ) أي لا أذكر الحزن العظيم ولا الحزن القليل إلا مع الله ، وقرأ الحسن : ( وحزني ) بفتحتين وحزني بضمتين ، قيل : دخل على يعقوب رجل وقال : يا يعقوب ضعف جسمك ونحف بدنك ، وما بلغت سنا عاليا ! فقال : الذي بي لكثرة غمومي ، فأوحى الله إليه : يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي ؟ فقال : يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي ، فغفرها له ، وكان بعد ذلك إذا سئل قال : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) وروي أنه أوحى الله إليه : إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه ، وإن أحب خلقي إلي الأنبياء والمساكين ، فاصنع طعاما وادع إليه المساكين ، وقيل : اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت .
ثم قال يعقوب عليه السلام : ( وأعلم من الله ما لا تعلمون ) أي أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون ، وهو أنه تعالى يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب ، فهو إشارة إلى أنه كان يتوقع وصول يوسف إليه .
وذكروا لسبب هذا التوقع أمورا :
أحدها : أن ملك الموت أتاه فقال له : يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف ؟ قال : لا يا نبي الله ، ثم أشار إلى جانب مصر وقال : اطلبه ههنا .
وثانيها : أنه علم أن يوسف صادقة ؛ لأن أمارات الرشد والكمال كانت ظاهرة في حق رؤيا يوسف ، ورؤيا مثله عليه السلام لا تخطئ .
وثالثها : لعله تعالى أوحى إليه أنه سيوصله إليه ، ولكنه تعالى ما عين الوقت ، فلهذا بقي في القلق .
ورابعها : قال السدي : لما أخبره بنوه بسيرة الملك وكمال حاله في أقواله وأفعاله ؛ طمع أن يكون هو يوسف ، وقال : يبعد أن يظهر في الكفار مثله .
وخامسها : علم قطعا أن بنيامين لا يسرق ، وسمع أن الملك ما آذاه وما ضربه ، فغلب على ظنه أن ذلك الملك هو يوسف ، فهذا جملة الكلام في المقام الأول .
والمقام الثاني : أنه رجع إلى أولاده ، وتكلم معهم على سبيل اللطف ، وهو قوله : ( يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ) .
واعلم أنه عليه السلام لما طمع في وجدان يوسف بناء على الأمارات المذكورة قال لبنيه : تحسسوا من يوسف ، والتحسس طلب الشيء بالحاسة وهو شبيه بالسمع والبصر ، قال : يقال : تحسست عن فلان ، ولا يقال : من فلان ، وقيل : ههنا ( أبو بكر الأنباري من يوسف ) ؛ لأنه أقام ( من ) مقام ( عن ) ، قال : ويجوز أن يقال : ( من ) للتبعيض ، والمعنى تحسسوا خبرا من أخبار يوسف ، واستعلموا بعض أخبار يوسف ، فذكرت كلمة ( من ) لما فيها من الدلالة على التبعيض ، وقرئ ( تجسسوا ) بالجيم كما قرئ بهما في الحجرات . [ ص: 159 ]
ثم قال : ( ولا تيأسوا من روح الله ) قال : الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه ، وتركيب الراء والواو والحاء يفيد الحركة والاهتزاز ، فكلما يهتز إنسان له ويلتذ بوجوده فهو روح . الأصمعي
وقال : ابن عباس يريد من رحمة الله ، وعن لا تيئسوا من روح الله قتادة : من فضل الله ، وقال ابن زيد : من فرج الله ، وهذه الألفاظ متقاربة ، وقرأ الحسن وقتادة : ( من روح الله ) بالضم أي : من رحمته .