المسألة الأولى : في الآية قولان :
القول الأول : جاء بكم من البدو أي من البداية ، وقال الواحدي : البدو بسيط من الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد ، وأصله من بدا يبدو بدوا ، ثم سمي المكان باسم المصدر فيقال : بدو وحضر ، يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش وبرية . وكان
والقول الثاني : قال رضي الله عنهما : كان ابن عباس يعقوب قد تحول إلى بدا ، وسكنها ، ومنها قدم على يوسف ، وله بها مسجد تحت جبلها .
قال ابن الأنباري : بدا اسم موضع معروف ، يقال : هو بين شغب وبدا ، وهما موضعان ذكرهما جميعا كثير فقال :
وأنت التي حببت شغبا إلى بدا إلي وأوطاني بلاد سواهما
فالبدو على هذا القول معناه قصد هذا الموضع الذي يقال له : بدا ، يقال : بدا القوم يبدون بدوا إذا أتوا بدا ، كما يقال : غار القوم غورا إذا أتوا الغور ، فكان معنى الآية : وجاء بكم من قصد بدا ، وعلى هذا القول كان يعقوب وولده حضريين ؛ لأن البدو لم يرد به البادية لكن عنى به قصد بدا ، إلى ههنا كلام قاله الواحدي في "البسيط" .
المسألة الثانية : تمسك أصحابنا بهذه الآية على أن ؛ لأن خروج العبد من [ ص: 172 ] السجن أضافه إلى نفسه بقوله : ( فعل العبد خلق الله تعالى إذ أخرجني من السجن ) ، ومجيئهم من البدو أضافه إلى نفسه سبحانه بقوله : ( وجاء بكم من البدو ) ، وهذا صريح في أن فعل العبد بعينه فعل الله تعالى ، وحمل هذا على أن المراد أن ذلك إنما حصل بإقدار الله تعالى وتيسيره عدول عن الظاهر .
ثم قال : ( من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ) قال صاحب "الكشاف" : ( نزغ ) أفسد بيننا وأغوى ، وأصله من نزغ الراكض الدابة وحملها على الجري . يقال : نزغه ونسغه إذا نخسه .
واعلم أن الجبائي والكعبي والقاضي احتجوا بهذه الآية على بطلان الجبر ، قالوا : لأنه تعالى أخبر عن يوسف عليه السلام أنه أضاف الإحسان إلى الله وأضاف النزغ إلى الشيطان ، ولو كان ذلك أيضا من الرحمن لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعم .
والجواب : أن إضافته هذا الفعل إلى الشيطان مجاز ، لأن عندكم الشيطان لا يتمكن من الكلام الخفي ، وقد أخبر الله عنه فقال : ( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) ( إبراهيم : 22 ) فثبت أن ظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك .
وأيضا فإن كان إقدام المرء على المعصية بسبب الشيطان ، فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر لزم التسلسل ، وهو محال ، وإن لم يكن بسبب شيطان آخر ؛ فليقل مثله في حق الإنسان ، فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق ليس بسبب الشيطان ، وليس أيضا بسبب نفسه ؛ لأن أحدا لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل والفسق الذي يوجب وقوعه في ذم الدنيا وعقاب الآخرة ، ولما كان وقوعه في الكفر والفسق لا بد له من موقع ، وقد بطل القسمان ؛ لم يبق إلا أن يقال : ذلك من الله تعالى ، ثم الذي يؤكد ذلك أن الآية المتقدمة على هذه الآية وهي قوله : ( إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو ) صريح في أن الكل من الله تعالى .
ثم قال : ( إن ربي لطيف لما يشاء ) والمعنى أن حصول الاجتماع بين يوسف وبين أبيه وإخوته مع الألفة والمحبة وطيب العيش وفراغ البال كان في غاية البعد عن العقول إلا أنه تعالى لطيف ، فإذا أراد حصول شيء سهل أسبابه فحصل وإن كان في غاية البعد عن الحصول .
ثم قال : ( إنه هو العليم الحكيم ) أعني أن كونه لطيفا في أفعاله إنما كان لأجل أنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها ، فيكون عالما بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب ، وحكيم أي محكم في فعله ، حاكم في قضائه ، حكيم في أفعاله ، مبرأ عن العبث والباطل ، والله أعلم .