( ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) .
قوله تعالى : ( ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) .
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في الحشر والنشر أولا ، ثم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في صحة ما ينذرهم به من نزول عذاب الاستئصال ثانيا ، ثم طعنوا في نبوته بأن طلبوا منه المعجزة والبينة ثالثا ، وهو المذكور في هذه الآية.
واعلم أن السبب فيه أنهم ، وقالوا : هذا كتاب مثل سائر الكتب وإتيان الإنسان بتصنيف معين وكتاب معين لا يكون معجزا البتة ، وإنما المعجز ما يكون مثل معجزات أنكروا كون القرآن من جنس المعجزات موسى وعيسى عليهما السلام.
واعلم أن من الناس من زعم أنه لم يظهر معجز في صدق محمد عليه الصلاة والسلام سوى القرآن. قالوا : إن هذا الكلام إنما يصح إذا طعنوا في ، مع أنه ما ظهر عليه نوع آخر من المعجزات ؛ لأن بتقدير أن يكون قد ظهر على يده نوع آخر من المعجزات لامتنع أن يقولوا : ( كون القرآن معجزا لولا أنزل عليه آية من ربه ) فهذا يدل على . أنه عليه السلام ما كان له معجز سوى القرآن
واعلم أن الجواب عنه من وجهين :
الأول : لعل المراد منه طلب معجزات سوى المعجزات التي شاهدوها منه صلى الله عليه وسلم كحنين الجذع ونبوع الماء من بين أصابعه وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، فطلبوا منه معجزات قاهرة غير هذه الأمور : مثل فلق البحر بالعصا ، وقلب العصا ثعبانا.
فإن قيل : فما السبب في أن الله تعالى منعهم وما أعطاهم؟
قلنا : إنه لما أظهر المعجزة الواحدة فقد تم الغرض فيكون طلب الباقي تحكما وظهور القرآن معجزة [ ص: 12 ] فما كان مع ذلك حاجة إلى سائر المعجزات ، وأيضا فلعله تعالى علم أنهم يصرون على العناد بعد ظهور تلك المعجزات الملتمسة ، وكانوا يصيرون حينئذ مستوجبين لعذاب الاستئصال ، فلهذا السبب ما أعطاهم الله تعالى مطلوبهم ، وقد بين الله تعالى ذلك بقوله : ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) [الأنفال : 23] بين أنه لم يعطهم مطلوبهم لعلمه تعالى أنهم لا ينتفعون به ، وأيضا ففتح هذا الباب يفضي إلى ما لا نهاية له. وهو أنه كلما أتى بمعجزة جاء واحد آخر ، فطلب منه معجزة أخرى ، وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء عليهم السلام ، وأنه باطل.
الوجه الثاني في الجواب : لعل الكفار ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر المعجزات ، ثم إنه تعالى لما حكى عن الكفار ذلك قال : ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اتفق القراء على التنوين في قوله : ( هاد ) وحذف الياء في الوصل ، واختلفوا في الوقف ، فقرأ ابن كثير : بالوقف على الياء ، والباقون : بغير الياء ، وهو رواية ابن فليح عن ابن كثير للتخفيف.
المسألة الثانية : في تفسير هذه الآية وجوه :
الأول : المراد أن ، ولكل قوم من قبله هاد ومنذر وداع ، وأنه تعالى سوى بين الكل في إظهار المعجزة إلا أنه كان لكل قوم طريق مخصوص لأجله استحق التخصيص بتلك المعجزة المخصوصة ، فلما كان الغالب في زمان الرسول عليه السلام منذر لقومه مبين لهم موسى عليه السلام هو السحر جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقتهم ، ولما كان الغالب في أيام عيسى عليه السلام الطب ، جعل معجزته ما كان من جنس تلك الطريقة وهو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، ولما كان الغالب في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم الفصاحة والبلاغة جعل معجزته ما كان لائقا بذلك الزمان ، وهو فصاحة القرآن ، فلما كان العرب لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع كونها أليق بطباعهم ، فبأن لا يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات أولى ، فهذا هو الذي قرره القاضي ، وهو الوجه الصحيح الذي يبقى الكلام معه منتظما.
والوجه الثاني : وهو أن المعنى أنهم لا يجحدون كون القرآن معجزا فلا يضيق قلبك بسببه إنما أنت منذر فما عليك إلا أن تنذر إلى أن يحصل الإيمان في صدورهم ، ولست بقادر عليهم ، ولكل قوم هاد قادر على هدايتهم بالتخليق ، وهو الله سبحانه وتعالى ، فيكون المعنى ليس لك إلا الإنذار ، وأما الهداية فمن الله تعالى .
واعلم أن أهل الظاهر من المفسرين ذكروا هاهنا أقوالا : الأول : المنذر والهادي شيء واحد ، والتقدير : إنما أنت منذر ولكل قوم منذر على حدة ، ومعجزة كل واحد منهم غير معجزة الآخر.
الثاني : المنذر محمد صلى الله عليه وسلم ، والهادي هو الله تعالى ، روي ذلك عن رضي الله عنهما ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد والضحاك .
والثالث : المنذر النبي ، والهادي علي ، قال رضي الله عنهما : ابن عباس وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره ، فقال : " أنا المنذر " ، ثم أومأ إلى منكب علي رضي الله عنه وقال : " أنت الهادي يا علي ، بك يهتدي المهتدون من بعدي " .