قوله تعالى : ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ) .
اعلم أن قوله : ( الذين آمنوا ) بدل من قوله : ( من أناب ) ، قال : يريد ابن عباس . إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت
فإن قيل : أليس أنه تعالى قال في سورة الأنفال : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) [الأنفال : 2] والوجل ضد الاطمئنان ، فكيف وصفهم هاهنا بالاطمئنان؟
والجواب من وجوه :
الأول : أنهم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا من أن يقدموا على المعاصي ، فهناك وصفهم بالوجل ، وإذا ذكروا بوعده بالثواب والرحمة ، سكنت قلوبهم إلى ذلك ، وأحد الأمرين لا ينافي الآخر ؛ لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب ، ويوجد الوجل في حال فكرهم في المعاصي ، وتوجد الطمأنينة عند اشتغالهم بالطاعات .
الثاني : أن المراد أن علمهم بكون القرآن معجزا يوجب حصول [ ص: 40 ] الطمأنينة لهم في كون محمد صلى الله عليه وسلم نبيا حقا من عند الله ، أما شكهم في أنهم أتوا بالطاعات على سبيل التمام والكمال فيوجب حصول الوجل في قلوبهم.
الثالث : أنه حصلت في قلوبهم الطمأنينة في أن الله تعالى صادق في وعده ووعيده ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق في كل ما أخبر عنه ، إلا أنه حصل الوجل والخوف في قلوبهم أنهم هل أتوا بالطاعة الموجبة للثواب أم لا ، وهل احترزوا عن المعصية الموجبة للعقاب أم لا؟
واعلم أن لنا في قوله : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) أبحاثا دقيقة غامضة وهي من وجوه :
الوجه الأول : أن الموجودات على ثلاثة أقسام : مؤثر لا يتأثر ، ومتأثر لا يؤثر ، وموجود يؤثر في شيء ويتأثر عن شيء ، فالمؤثر الذي لا يتأثر هو الله سبحانه وتعالى ، والمتأثر الذي لا يؤثر هو الجسم ، فإنه ذات قابلة للصفات المختلفة والآثار المتنافية ، وليس له خاصية إلا القبول فقط ، وأما الموجود الذي يؤثر تارة ويتأثر أخرى ، فهي الموجودات الروحانية ؛ وذلك لأنها إذا توجهت إلى الحضرة الإلهية صارت قابلة للآثار الفائضة عن مشيئة الله تعالى وقدرته وتكوينه وإيجاده ، وإذا توجهت إلى عالم الأجسام اشتاقت إلى التصرف فيها ، لأن عالم الأرواح مدبر لعالم الأجسام.
وإذا عرفت هذا ، فالقلب كلما توجه إلى مطالعة عالم الأجسام حصل فيه الاضطراب والقلق والميل الشديد إلى الاستيلاء عليها والتصرف فيها ، أما إذا توجه القلب إلى مطالعة الحضرة الإلهية حصل فيه أنوار الصمدية والأضواء الإلهية ، فهناك يكون ساكنا ، فلهذا السبب قال : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) .
الوجه الثاني : أن القلب كلما وصل إلى شيء فإنه يطلب الانتقال منه إلى حالة أخرى أشرف منها ؛ لأنه لا سعادة في عالم الأجسام إلا وفوقها مرتبة أخرى في اللذة والغبطة ، أما إذا انتهى القلب والعقل إلى الاستسعاد بالمعارف الإلهية والأضواء الصمدية بقي واستقر ، فلم يقدر على الانتقال منه البتة ؛ لأنه ليس هناك درجة أخرى في السعادة أعلى منها وأكمل ؛ فلهذا المعنى قال ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) .
والوجه الثالث في تفسير هذه الكلمة : أن الإكسير إذا وقعت منه ذرة على الجسم النحاسي انقلب ذهبا باقيا على كر الدهور والأزمان صابرا على الذوبان الحاصل بالنار ، فإكسير جلال الله تعالى إذا وقع في القلب أولى أن يقلبه جوهرا باقيا صافيا نورانيا لا يقبل التغير والتبدل ، فلهذا قال : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) .