واعلم : أنه تعالى ذكر في صفات عجزهم وذلتهم أمورا
فالصفة الأولى : كونهم مقرنين في الأصفاد . يقال : قرنت الشيء بالشيء إذا شددته به ووصلته . والقران اسم للحبل الذي يشد به شيئان . وجاء ههنا على التكثير لكثرة أولئك القوم . والأصفاد جمع صفد وهو القيد .
إذا عرفت هذا فنقول : في قوله : ( مقرنين ) ثلاثة أوجه :
أحدها : قال الكلبي : "مقرنين" : كل كافر مع شيطان في غل ، وقال عطاء : هو معنى قوله : ( وإذا النفوس زوجت ) [ التكوير : 7 ] أي قرنت ، فيقرن الله تعالى نفوس المؤمنين بالحور العين ، وأقول : حظ البحث العقلي منه أن [ ص: 117 ] الإنسان إذا فارق الدنيا ، فإما أن يكون قد راض نفسه وهذبها ودعاها إلى معرفة الله تعالى وطاعته ومحبته ، أو ما فعل ذلك ، بل تركها متوغلة في اللذات الجسدانية مقبلة على الأحوال الوهمية والخيالية ، فإن كان الأول فتلك النفس تفارق مع تلك الجهة بالحضرة الإلهية ، والسعادة بالعناية الصمدانية ، وإن كان الثاني فتلك النفس تفارق مع الأسف والحزن والبلاء الشديد ، بسبب الميل إلى عالم الجسم ، وهذا هو المراد بقوله : ( ونفوس الكافرين بقرنائهم من الشياطين وإذا النفوس زوجت ) [ التكوير : 7 ] وشيطان النفس الكافرة هي الملكات الباطلة ، والحوادث الفاسدة ، وهو المراد من قول عطاء : إن كل كافر مع شيطانه يكون مقرونا في الأصفاد .
والقول الثاني في تفسير قوله : ( مقرنين في الأصفاد ) : هو قرن بعض الكفار ببعض ، والمراد أن تلك النفوس الشقية والأرواح المكدرة الظلمانية لكونها متجانسة متشاكلة ينضم بعضها إلى بعض ، وتنادي ظلمة كل واحدة منها إلى الأخرى ، فانحدار كل واحدة منها إلى الأخرى في تلك الظلمات والخسارات هي المراد بقوله : ( مقرنين في الأصفاد ) .
والقول الثالث : قال : قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال ، وحظ العقل من ذلك أن الملكات الحاصلة في جوهر النفس إنما تحصل بتكرير الأفعال الصادرة من الجوارح والأعضاء ، فإذا كانت تلك الملكات ظلمانية كدرة ، صارت في المثال كأن أيديها وأرجلها قرنت وغلت في رقابها . وأما قوله : ( زيد بن أرقم في الأصفاد ) ففيه وجهان :
أحدها : أن يكون ذلك متعلقا بمقرنين ، والمعنى : يقرنون بالأصفاد .
والثاني : أن لا يكون متعلقا به ، والمعنى : أنهم مقرنون مقيدون ، وحظ العقل معلوم مما سلفت الإشارة إليه .
الصفة الثانية : قوله تعالى : ( سرابيلهم من قطران ) السرابيل جمع سربال وهو القميص ، والقطران فيه ثلاث لغات : قطران وقطران وقطران ، بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء ، وبفتح القاف وكسر الطاء ، وهو شيء يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ ويطلى به الإبل الجرب فيحرق الجرب بحرارته وحدته ، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف ، ومن شأنه أن يتسارع فيه اشتعال النار ، وهو أسود اللون منتن الريح فتطلى به جلود أهل النار حتى يصير ذلك الطلي كالسرابيل ، وهي القمص فيحصل بسببها أربعة أنواع من العذاب : لذع القطران وحرقته ، وإسراع النار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الريح . وأيضا . وأقول : حظ العقل من هذا أن جوهر الروح جوهر مشرق لامع من عالم القدس وغيبة الجلال ، وهذا البدن جار مجرى السربال والقميص له ، وكل ما يحصل للنفس من الآلام والغموم فإنما يحصل بسبب هذا البدن ، فلهذا البدن لذع وحرقة في جوهر النفس ؛ لأن الشهوة والحرص والغضب إنما تتسارع إلى جوهر الروح بسببه وكونه للكثافة والكدورة والظلمة هو الذي يخفي لمعان الروح وضوءه ، وهو سبب لحصول النتن والعفونة ، فتشبه هذا الجسد بسرابيل من القطران والقطر ، وقرأ بعضهم : " من قطر آن " والقطر النحاس أو الصفر المذاب والآني المتناهي حره . قال التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين : وتلك النار لا تبطل ذلك القطران ولا تفنيه كما لا تهلك النار أجسادهم والأغلال التي كانت عليهم . أبو بكر بن الأنباري
الصفة الثالثة : قوله تعالى : ( وتغشى وجوههم النار ) ونظيره قوله تعالى : ( أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ) [ الزمر : 24 ] وقوله : ( يوم يسحبون في النار على وجوههم ) [ القمر : 48 ] .
واعلم أن ، وموضع الفكر والوهم والخيال هو [ ص: 118 ] الرأس . وأثر هذه الأحوال إنما تظهر في الوجه ، فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيهما فقال في القلب : ( موضع المعرفة والنكرة والعلم والجهل هو القلب نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ) [ الهمزة : 6 ] وقال في الوجه : ( وتغشى وجوههم النار ) بمعنى تتغشى ، ولما ذكر تعالى هذه الصفات الثلاثة قال : ( ليجزي الله كل نفس ما كسبت ) قال الواحدي : المراد منه أنفس الكفار لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان ، وأقول : يمكن إجراء اللفظ على عمومه ؛ لأن لفظ الآية يدل على ولما كان كسب هؤلاء الكفار الكفر والمعصية ، كان جزاؤهم هو هذا العقاب المذكور ، ولما كان كسب المؤمنين الإيمان والطاعة ، كان اللائق بهم هو الثواب ، وأيضا أنه تعالى لما عاقب المجرمين بجرمهم فلأن يثيب المطيعين على طاعتهم كان أولى . أنه تعالى يجزي كل شخص بما يليق بعمله وكسبه
ثم قال تعالى : ( إن الله سريع الحساب ) والمراد أنه تعالى لا يظلمهم ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقونه . وحظ العقل منه أن الأخلاق الظلمانية هي المبادئ لحصول الآلام الروحانية ، وحصول تلك الأخلاق في النفس على قدر صدور تلك الأعمال منهم في الحياة الدنيا ، فإن الملكات النفسانية إنما تحصل في جوهر النفس بسبب الأفعال المتكررة ، وعلى هذا التقدير فتلك الآلام تتفاوت بحسب تلك الأفعال في كثرتها وقلتها وشدتها وضعفها وذلك يشبه الحساب .