قوله تعالى : ( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون )
اعلم أن هذا الكلام هو المذكور في سورة الأنعام في قوله : ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) [الأنعام : 7] والحاصل : أن القوم لما تعالى بين الله تعالى في هذه الآية أن بتقدير أن يحصل هذا المعنى لقال الذين كفروا هذا من باب السحر وهؤلاء الذين يظن أنا نراهم ، فنحن في الحقيقة لا نراهم . طلبوا نزول ملائكة يصرحون بتصديق الرسول عليه السلام في كونه رسولا من عند الله
والحاصل : أنه لما علم الله تعالى أنه لا فائدة في نزول الملائكة فلهذا السبب ما أنزلهم .
فإن قيل : كيف يجوز من الجماعة العظيمة أن يصيروا شاكين في وجود ما يشاهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح ، ولو جاز حصول الشك في ذلك كانت السفسطة لازمة ، ولا يبقى حينئذ اعتماد على الحس والمشاهدة .
أجاب القاضي عنه : بأنه تعالى ما وصفهم بالشك فيما يبصرون ، وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول ، وقد يجوز أن يقدم الإنسان على الكذب على سبيل العناد والمكابرة ، ثم سأل نفسه وقال : أفيصح من الجمع العظيم أن يظهروا الشك في المشاهدات ، وأجاب بأنه يصح ذلك إذا جمعهم عليه غرض صحيح معتبر من مواطأة على دفع حجة أو غلبة خصم ، وأيضا فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصوصين ، سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم إنزال الملائكة ، وهذا السؤال ما كان إلا من رؤساء القوم ، وكانوا قليلي العدد ، وإقدام العدد القليل على ما يجري مجرى المكابرة جائز .
المسألة الثانية : قوله تعالى : ( فظلوا فيه يعرجون ) يقال : ظل فلان نهاره يفعل كذا إذا فعله بالنهار ولا تقول العرب ظل يظل إلا لكل عمل عمل بالنهار ، كما لا يقولون بات يبيت إلا بالليل ، والمصدر الظلول ، وقوله : ( فيه يعرجون ) يقال : عرج يعرج عروجا ، ومنه المعارج ، وهي المصاعد التي يصعد فيها ، وللمفسرين في هذه الآية قولان :
القول الأول : أن قوله : ( فظلوا فيه يعرجون ) من . قال صفة المشركين رضي الله عنهما : لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج ، وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه ، وإلى عبادة الملائكة الذين هم من خشيته مشفقون لشكوا في تلك الرؤية ، وبقوا مصرين على كفرهم وجهلهم كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر ، وما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله . ابن عباس
القول الثاني : أن هذا العروج للملائكة ، والمعنى : أنه تعالى لو جعل هؤلاء الكفار بحيث يروا أبوابا من السماء مفتوحة ، وتصعد منها الملائكة وتنزل لصرفوا ذلك عن وجهه ، ولقالوا : إن السحرة سحرونا وجعلونا [ ص: 133 ] بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها وقوله : ( لقالوا إنما سكرت أبصارنا ) فيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ( سكرت ) بالتخفيف ، والباقون مشددة الكاف قال الواحدي سكرت غشيت ، وسددت بالسحر هذا قول أهل اللغة قالوا : وأصله من السكر وهو سد الشق ; لئلا ينفجر الماء ، فكأن هذه الأبصار منعت من النظر كما يمنع السكر الماء من الجري ، والتشديد يوجب زيادة وتكثيرا ، وقال : هو مأخوذ من سكر الشراب يعني : أن الأبصار حارت ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع بالرجل السكران من تغير العقل ، فإذا كان هذا معنى التخفيف فسكرت بالتشديد يراد به وقوع هذا الأمر مرة بعد أخرى ، وقال أبو عمرو بن العلاء أبو عبيدة : ( سكرت أبصارنا ) أي : غشيت أبصارنا فوجب سكونها وبطلانها ، وعلى هذا القول أصله من السكون يقال : سكرت الريح سكرا إذا سكنت ، وسكر الحر يسكر ، وليلة ساكرة لا ريح فيها ، وقال أوس :
جذلت على ليلة ساهرة فليست بطلق ولا ساكرة
ويقال : سكرت عينه سكرا إذا تحيرت ، وسكنت عن النظر وعلى هذا معنى سكرت أبصارنا ، أي : سكنت عن النظر وهذا القول اختيار الزجاج . وقال أبو علي الفارسي : سكرت صارت بحيث لا ينفذ نورها ، ولا تدرك الأشياء على حقائقها ، وكان معنى السكر قطع الشيء عن سننه الجاري ، فمن ذلك تسكير الماء وهو رده عن سننه في الجرية ، والسكر في الشراب هو أن ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في الصحو ، فهذه أقوال أربعة في تفسير ( سكرت ) وهي في الحقيقة متقاربة ، والله أعلم .
المسألة الثانية : قال الجبائي : من حتى يروهم الشيء على خلاف ما هو عليه لم يصح إيمانه بالأنبياء والرسل ، وذلك لأنهم إذا جوزوا ذلك فلعل هذا الذي يرى أنه جوز قدرة السحرة على أن يأخذوا بأعين الناس محمد بن عبد الله ليس هو ذلك الرجل وإنما هو شيطان ، ولعل هذه المعجزات التي نشاهدها ليس لها حقائق ، بل هي تكون من باب الآراء الباطلة من ذلك الساحر ، وإذا حصل هذا التجويز بطل الكل . والله أعلم .