( وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون )
قوله تعالى : ( وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون )
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن كل ما سوى الله سواء كان من عالم الأرواح أو من عالم الأجسام ، فهو منقاد خاضع لجلال الله تعالى وكبريائه ، أتبعه في هذه الآية وأنه غني عن الكل فقال : ( بالنهي عن الشرك وبالأمر بأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : إن الإلهين لا بد وأن يكونا اثنين ، فما الفائدة في قوله : ( إلهين اثنين ) .
وجوابه من وجوه :
أحدها : قال صاحب " النظم " : فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : لا تتخذوا اثنين إلهين .
وثانيها : وهو الأقرب عندي أن الشيء إذا كان مستنكرا مستقبحا ، فمن أراد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ; ليصير توالي تلك العبارات سببا لوقوف العقل على ما فيه من القبح .
إذا عرفت هذا فالقول بوجود الإلهين قول مستقبح في العقول ، ولهذا المعنى فإن أحدا من العقلاء لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجوب والقدم وصفات الكمال ، فقوله : ( لا تتخذوا إلهين اثنين ) المقصود من تكريره تأكيد التنفير عنه ، وتكميل وقوف العقل على ما فيه من القبح .
وثالثها : أن قوله : ( إلهين ) لفظ واحد يدل على أمرين : ثبوت الإله وثبوت التعدد ، فإذا قيل : لا تتخذوا إلهين لم يعرف من هذا اللفظ أن النهي وقع عن إثبات الإله أو عن إثبات التعدد أو عن مجموعهما . فلما قال : ( لا تتخذوا إلهين اثنين ) ثبت أن قوله : ( لا تتخذوا إلهين ) نهي عن إثبات التعدد فقط .
ورابعها : أن الاثنينية منافية للإلهية ، وتقريره من وجوه .
الأول : أنا لو فرضنا موجودين يكون كل واحد منهما واجبا لذاته لكانا مشتركين في الوجوب الذاتي ومتباينين بالتعين ، وما به المشاركة غير ما به المباينة ، فكل واحد منهما مركب من جزأين ، وكل مركب فهو ممكن ، فثبت أن القول بأن واجب الوجود أكثر من واحد ينفي القول بكونهما واجبي الوجود .
والثاني : أنا لو فرضنا إلهين وحاول [ ص: 40 ] أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه ، امتنع كون أحدهما أولى بالفعل من الثاني ; لأن الحركة الواحدة والسكون الواحد لا يقبل القسمة أصلا ولا التفاوت أصلا ، وإذا كان كذلك امتنع أن تكون القدرة على أحدهما أكمل من القدرة على الثاني ، وإذا ثبت هذا امتنع كون إحدى القدرتين أولى بالتأثير من الثانية ، وإذا ثبت هذا فإما أن يحصل مراد كل واحد منهما وهو محال ، أو لا يحصل مراد كل واحد منهما وهو محال ، أو لا يحصل مراد كل واحد منهما البتة ، فحينئذ يكون كل واحد منهما عاجزا ، والعاجز لا يكون إلها . فثبت أن كونهما اثنين ينفي كون كل واحد منهما إلها .
الثالث : أنا لو فرضنا إلهين اثنين لكان إما أن يقدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر أو لا يقدر ، فإن قدر ذاك إله والآخر ضعيف ، وإن لم يقدر فهو ضعيف .
والرابع : وهو أن أحدهما إما أن يقوى على مخالفة الآخر ، أو لا يقوى عليه ، فإن لم يقو عليه فهو ضعيف ، وإن قوي عليه فذاك الآخر إن لم يقو على الدفع فهو ضعيف ، وإن قوي عليه فالأول المغلوب ضعيف . فثبت أن الاثنينية والإلهية متضادتان . فقوله : ( لا تتخذوا إلهين اثنين ) المقصود منه : التنبيه على حصول المنافاة والمضادة بين الإلهية وبين الاثنينية ، والله أعلم .
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الكلام قال : ( إنما هو إله واحد ) والمعنى : أنه لما دلت الدلائل السابقة على أنه لا بد للعالم من الإله ، وثبت أن ، ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد الحق الصمد . القول بوجود الإلهين محال
ثم قال بعده : ( فإياي فارهبون ) وهذا رجوع من الغيبة إلى الحضور ، والتقدير : أنه لما ثبت أن الإله واحد وثبت أن المتكلم بهذا الكلام إله ، فحينئذ ثبت أنه لا إله للعالم إلا المتكلم بهذا الكلام ، فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور ، ويقول : ( فإياي فارهبون ) وفيه دقيقة أخرى وهو أن قوله : ( فإياي فارهبون ) يفيد الحصر ، وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه ، وأن لا يرغبوا إلا في فضله وإحسانه ، وذلك لأن الموجود إما قديم وإما محدث ، أما القديم الذي هو الإله فهو واحد ، وأما ما سواه فمحدث ، وإنما حدث بتخليق ذلك القديم وبإيجاده ، وإذا كان كذلك فلا رغبة إلا إليه ولا رهبة إلا منه ، فبفضله تندفع الحاجات وبتكوينه وبتخليقه تنقطع الضرورات .