واحتج بوجوه : المنكرون للكرامات
الشبهة الأولى : -وهي التي عليها يعولون وبها يضلون- أن ظهور الخارق للعادة جعله الله دليلا على النبوة ، فلو حصل لغير نبي لبطلت هذه الدلالة ؛ لأن حصول الدليل مع عدم المدلول يقدح في كونه دليلا ، وذلك باطل .
والشبهة الثانية : تمسكوا بقوله عليه السلام حكاية عن الله سبحانه : قالوا : هذا يدل على أن التقرب إلى الله بأداء الفرائض أعظم من التقرب إليه بأداء النوافل ، ثم إن المتقرب إليه بأداء الفرائض لا يحصل له شيء من الكرامات ، فالمتقرب إليه بأداء النوافل أولى أن لا يحصل له ذلك . "لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم"
الشبهة الثالثة : تمسكوا بقوله تعالى : ( وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ) ( النحل : 7 ) والقول بأن الولي ينتقل من بلد إلى بلد بعيد -لا على الوجه- طعن في هذه الآية ، وأيضا أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- لم يصل من مكة إلى المدينة إلا في أيام كثيرة مع التعب الشديد ، فكيف يعقل أن يقال : إن الولي ينتقل من بلد نفسه إلى الحج في يوم واحد .
الشبهة الرابعة : قالوا : هذا الولي الذي تظهر عليه الكرامات إذا ادعى على إنسان درهما فهل نطالبه بالبينة أم لا ؟ فإن طالبناه بالبينة كان عبثا لأن ظهور الكرامات عليه يدل على أنه لا يكذب ، ومع قيام الدليل القاطع كيف يطلب الدليل الظني ؟ وإن لم نطالبه بها ؟ فقد تركنا قوله عليه السلام : فهذا يدل على أن القول بالكرامة باطل . "البينة على المدعي"
الشبهة الخامسة : إذا جاز ظهور الكرامة على بعض الأولياء جاز ظهورها على الباقين ، فإذا كثرت الكرامات حتى خرقت العادة جرت وفقا للعادة ، وذلك يقدح في المعجزة والكرامة .
والجواب عن الشبهة الأولى : أن الناس اختلفوا في أنه هل يجوز للولي دعوى الولاية ؟ فقال قوم من المحققين : أن ذلك لا يجوز ، فعلى هذا القول يكون أن المعجزة تكون مسبوقة بدعوى النبوة ، والكرامة لا تكون مسبوقة بدعوى الولاية ، والسبب في هذا الفرق أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا إلى الخلق ليصيروا دعاة للخلق من الكفر إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة ، فلو لم تظهر دعوى النبوة لم يؤمنوا به وإذا لم يؤمنوا به بقوا على الكفر ، وإذا ادعوا النبوة وأظهروا المعجزة آمن القوم بهم ، فإقدام الأنبياء على دعوى النبوة ليس الغرض منه تعظيم النفس ، بل المقصود منه إظهار الشفقة على الخلق حتى ينتقلوا من الكفر إلى الإيمان ، أما ثبوت الولاية للولي فليس الجهل بها كفرا ولا معرفتها إيمانا ، فكان دعوى الولاية طلبا لشهوة النفس ، فعلمنا أن النبي يجب عليه إظهار دعوى النبوة [ ص: 79 ] والولي لا يجوز له دعوى الولاية فظهر الفرق ، أما الذين قالوا : يجوز للولي دعوى الولاية ، فقد ذكروا الفرق بين المعجزة والكرامة من وجوه : الفرق بين المعجزات والكرامات
الأول : أن ظهور الفعل الخارق للعادة يدل على كون ذلك الإنسان مبرءا عن المعصية ، ثم إن اقترن هذا الفعل بادعاء النبوة دل على كونه صادقا في دعوى النبوة ، وإن اقترن بادعاء الولاية دل على كونه صادقا في دعوى الولاية ، وبهذا الطريق لا يكون ظهور الكرامة على الأولياء طعنا في معجزات الأنبياء عليهم السلام .
الثاني : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعي المعجزة ويقطع بها ، والولي إذا ادعى الكرامة لا يقطع بها ؛ لأن المعجزة يجب ظهورها ، أما الكرامة ، فلا يجب ظهورها .
الثالث : أنه يجب نفي المعارضة عن المعجزة ، ولا يجب نفيها عن الكرامة .
الرابع : أنا لا نجوز ظهور الكرامة على الولي عند ادعاء الولاية إلا إذا أقر عند تلك الدعوى بكونه على دين ذلك النبي ، ومتى كان الأمر كذلك صارت تلك الكرامة معجزة لذلك النبي ومؤكدة لرسالته ، وبهذا التقدير لا يكون ظهور الكرامة طاعنا في نبوة النبي بل يصير مقويا لها .
والجواب عن الشبهة الثانية : أن التقرب بالفرائض وحدها أكمل من التقرب بالنوافل ، أما ، ولا شك أنه يكون حاله أتم من حال من اقتصر على الفرائض ، فظهر الفرق . الولي فإنما يكون وليا إذا كان آتيا بالفرائض والنوافل
والجواب على الشبهة الثالثة : أن قوله تعالى : ( وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ) محمول على المعهود المتعارف ، أحوال نادرة ، فتصير كالمستثناة عن ذلك العموم ، وهذا هو "الجواب" عن الشبهة الرابعة ، وهي التمسك بقوله عليه السلام : وكرامات الأولياء . البينة على المدعي
والجواب عن الشبهة الخامسة : أن المطيعين فيهم قلة ، كما قال تعالى : ( وقليل من عبادي الشكور ) ( سبأ : 13 ) وكما قال إبليس : ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) ( الأعراف : 17 ) وإذا حصلت القلة فيهم لم يكن ما يظهر عليهم من الكرامات في الأوقات النادرة قادحا في كونها على خلاف العادة .