( ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا )
قوله تعالى : ( ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا )
[ ص: 113 ] اعلم أنه تعالى لما بين خساسة الدنيا وشرف القيامة أردفه بأحوال القيامة فقال : ( ويوم نسير الجبال ) والمقصود منه الرد على المشركين الذي افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأعوان ، واختلفوا في الناصب لقوله : ( ويوم نسير الجبال ) على وجوه :
أحدها : أنه يكون التقدير ، واذكر لهم : ( ويوم نسير الجبال ) عطفا على قوله : ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا ) .
الثاني : أنه يكون التقدير : ( ويوم نسير الجبال ) حصل كذا وكذا يقال لهم : ( لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ) لأن القول مضمر في هذا الموضع فكان المعنى أنه يقال لهم : هذا في هذا الموضع .
الثالث : أن يكون التقدير ( وخير أملا ) في ( ويوم نسير الجبال ) والأول أظهر .
إذا عرفت هذا فنقول : إنه ذكر في الآية من أنواعا : أحوال القيامة
النوع الأول : قوله : ( ويوم نسير الجبال ) وفيه بحثان :
البحث الأول : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (تسير) على فعل ما لم يسم فاعله ، (الجبال) بالرفع بإسناد (تسير) إليه اعتبارا بقوله تعالى : ( وإذا الجبال سيرت ) ( التكوير : 3 ) والباقون (نسير) بإسناد فعل التسيير إلى نفسه تعالى ، (والجبال) بالنصب لكونه مفعول نسير ، والمعنى نحن نفعل بها ذلك اعتبارا بقوله : ( وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ) والمعنى واحد ؛ لأنها إذا سيرت فمسيرها ليس إلا الله سبحانه .
ونقل صاحب الكشاف قراءة أخرى وهي : (تسير الجبال) بإسناد تسير إلى الجبال .
البحث الثاني : قوله : ( ويوم نسير الجبال ) ليس في لفظ الآية ما يدل على أنها إلى أين تسير ، فيحتمل أن يقال : إنه تعالى يسيرها إلى الموضع الذي يريده ولم يبين ذلك الموضع لخلقه ، والحق أن المراد : أنه تعالى يسيرها إلى العدم لقوله تعالى : ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ) ( طه : 107 ) ولقوله : ( وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا ) ( الواقعة : 5 ) .
والنوع الثاني من أحوال القيامة : قوله تعالى : ( وترى الأرض بارزة ) وفي تفسيره وجوه :
أحدها : أنه لم يبق على وجهها شيء من العمارات ، ولا شيء من الجبال ، ولا شيء من الأشجار ، فبقيت بارزة ظاهرة ليس عليها ما يسترها ، وهو المراد من قوله : ( لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ) .
وثانيها : أن المراد من كونها بارزة أنها أبرزت ما في بطنها ، وقذفت الموتى المقبورين فيها ، فهي بارزة الجوف والبطن ، فحذف ذكر الجوف ، ودليله قوله تعالى : ( وألقت ما فيها وتخلت ) ( الانشقاق : 4 ) وقوله : ( وأخرجت الأرض أثقالها ) ( الزلزلة : 2 ) وقوله : ( وبرزوا لله جميعا ) ( إبراهيم : 21 ) .
وثالثها : أن وجوه الأرض كانت مستورة بالجبال والبحار ، فلما أفنى الله تعالى الجبال والبحار فقد برزت وجوه تلك البقاع بعد أن كانت مستورة .
والنوع الثالث من أحوال القيامة : قوله : ( وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ) والمعنى : جمعناهم للحساب ، فلم نغادر منهم أحدا ، أي لم نترك من الأولين والآخرين أحدا إلا وجمعناهم لذلك اليوم ، ونظيره قوله تعالى : ( قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ) ( الواقعة :49 - 50) ومعنى لم نغادر لم نترك ، يقال : غادره وأغدره إذا تركه ، ومنه الغدر ترك الوفاء ، ومنه الغدير ؛ لأنه ما تركته السيول ، ومنه سميت ضفيرة المرأة بالغديرة ؛ لأنها تجعلها خلفها .
ولما ذكر الله تعالى ذكر كيفية عرضهم ، فقال : ( حشر الخلق وعرضوا على ربك صفا ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في تفسير الصف وجوه :
أحدها : أنه تعرض الخلق كلهم على الله صفا واحدا ظاهرين بحيث لا يحجب بعضهم بعضا ، قال القفال : ويشبه أن يكون الصف راجعا إلى الظهور والبروز ، ومنه اشتق الصفصف للصحراء .
وثانيها : لا يبعد أن يكون الخلق صفوفا يقف بعضهم وراء بعض مثل الصفوف [ ص: 114 ] المحيطة بالكعبة التي يكون بعضها خلف بعض ، وعلى هذا التقدير : فالمراد من قوله : صفا صفوفا كقوله : ( يخرجكم طفلا ) ( غافر : 67 ) أي أطفالا .
وثالثها : صفا أي قياما ، كما قال تعالى : ( فاذكروا اسم الله عليها صواف ) ( الحج : 36 ) قالوا قياما .
المسألة الثانية : قالت المشبهة : قوله تعالى : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) ( الفجر : 22 ) يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان وتعرض عليه أهل القيامة صفا ، وكذلك قوله تعالى : ( لقد جئتمونا ) يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان ، وأجيب عنه بأنه تعالى جعل وقوفهم في الموضع الذي يسألهم فيه عن أعمالهم ويحاسبهم عليها عرضا عليه ، لا على أنه تعالى يحضر في مكان وعرضوا عليه ليراهم بعد أن لم يكن يراهم ، ثم قال تعالى : ( لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ) وليس المراد حصول المساواة من كل الوجوه ؛ لأنهم خلقوا صغارا ولا عقل لهم ولا تكليف عليهم بل المراد أنه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين في الدنيا على فقراء المؤمنين بالأموال والأنصار : ( لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ) عراة حفاة بغير أموال ولا أعوان ، ونظيره قوله تعالى : ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ) ( الأنعام : 94 ) وقال تعالى : ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ) إلى قوله : ( ويأتينا فردا ) ( مريم : 80 ) ثم قال تعالى : ( بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ) أي كنتم مع التعزز على المؤمنين بالأموال والأنصار تنكرون البعث والقيامة ، فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا وشاهدتم أن البعث والقيامة حق ، ثم قال تعالى : ( ووضع الكتاب ) والمراد : أنه يوضع في هذا اليوم كتاب كل إنسان في يده ، إما في اليمين أو في الشمال ، والمراد الجنس وهو : ( صحف الأعمال فترى المجرمين مشفقين مما فيه ) أي خائفين مما في الكتاب من أعمالهم الخبيثة وخائفين من ظهور ذلك لأهل الموقف فيفتضحون ، وبالجملة يحصل لهم خوف العقاب من الحق وخوف الفضيحة عند الخلق ، ويقولون : يا ويلتنا ينادون هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات : ( مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) وهي عبارة عن الإحاطة بمعنى لا يترك شيئا من المعاصي سواء كانت صغيرة أو كبيرة إلا وهي مذكورة في هذا الكتاب ، ونظيره قوله تعالى : ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ) ( الانفطار : 10 ) وقوله : ( إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) ( الجاثية : 29 ) وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة على تقدير أن المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة : ( إلا أحصاها ) إلا ضبطها وحصرها ، قال بعض العلماء : ضجوا من الصغائر قبل الكبائر ؛ لأن تلك الصغائر هي التي جرتهم إلى الكبائر ، فاحترزوا من الصغائر جدا : ( ووجدوا ما عملوا حاضرا ) في الصحف عتيدا أو جزاء ما عملوا : ( ولا يظلم ربك أحدا ) معناه : أنه لا يكتب عليه ما لم يفعل ، ولا يزيد في عقابه المستحق ، ولا يعذب أحدا بجرم غيره ، بقي في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الجبائي : هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة في مسائل : أحدها : أنه لو عذب عباده من غير فعل صدر منهم لكان ظالما .
وثانيها : أنه لا يعذب الأطفال بغير ذنب .
وثالثها : بطلان قولهم : لله [ ص: 115 ] أن يفعل ما يشاء ويعذب من غير جرم ؛ لأن الخلق خلقه إذ لو كان كذلك لما كان لنفي الظلم عنه معنى لأن بتقدير أنه إذا فعل أي شيء أراد لم يكن ظلما منه لم يكن لقوله : إنه لا يظلم فائدة ، فيقال له :
أما الجواب عن الأولين : فهو المعارضة بالعلم والداعي .
وأما الجواب عن هذا الثالث : فهو أنه تعالى قال : ( ما كان لله أن يتخذ من ولد ) ( مريم : 35 ) ولم يدل هذا على أن اتخاذ الولد صحيح عليه ، فكذا ههنا .
المسألة الثانية : عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : " يحاسب الناس في القيامة على ثلاثة يوسف ، وأيوب ، وسليمان ، فيدعو بالمملوك ويقول له : ما شغلك عني ، فيقول : جعلتني عبدا للآدمي فلم تفرغني ، فيدعو يوسف عليه السلام ، ويقول : كان هذا عبدا مثلك ، فلم يمنعه ذلك عن عبادتي فيؤمر به إلى النار ، ثم يدعو بالمبتلي فإذا قال : شغلتني بالبلاء دعا بأيوب عليه السلام فيقول : قد ابتليت هذا بأشد من بلائك ، فلم يمنعه ذلك عن عبادتي فيؤمر به إلى النار ، ثم يؤتى بالملك في الدنيا مع ما آتاه الله من الغنى والسعة ، فيقول : ماذا عملت فيما آتيتك ؟ فيقول : شغلني الملك عن ذلك ، فيدعى بسليمان عليه السلام ، فيقول : هذا عبدي سليمان آتيته أكثر ما آتيتك ، فلم يشغله ذلك عن عبادتي ، اذهب فلا عذر لك ، ويؤمر به إلى النار " ، وعن معاذ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : : عن جسده فيما أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه كيف عمل به لن يزول قدم العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع .
المسألة الثالثة : دلت الآية على إثبات ، وهذا متفق عليه بين المسلمين إلا أنهم اختلفوا في تفسيره ، فقالت صغائر وكبائر في الذنوب المعتزلة : الكبيرة ما يزيد عقابه على ثواب فاعله ، والصغيرة ما ينقص عقابه عن ثواب فاعله ، واعلم أن هذا الحد إنما يصح لو ثبت أن الفعل يوجب ثوابا وعقابا ، وذلك عندنا باطل لوجوه كثيرة ذكرناها في سورة البقرة ، في إبطال القول بالإحباط والتكفير بل الحق عندنا أن الطاعات محصورة في نوعين : التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فكل ما كان أقوى في كونه جهلا بالله كان أعظم في كونه كبيرة ، وكل ما كان أقوى في كونه إضرارا بالغير كان أكثر في كونه ذنبا أو معصية فهذا هو الضبط .