وفي الآية فوائد :
الفائدة الأولى : أنه تعالى سمى ذلك الموضع قرية حيث قال : ( إذا أتيا أهل قرية ) وسماه أيضا مدينة حيث قال : ( وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة ) .
الفائدة الثانية : اختلفوا في هذا الكنز فقيل : إنه كان مالا وهذا هو الصحيح لوجهين :
الأول : أن المفهوم من لفظ الكنز هو المال .
والثاني : أن قوله : ( ويستخرجا كنزهما ) يدل على أن ذلك الكنز هو المال وقيل إنه كان علما بدليل أنه قال : ( وكان أبوهما صالحا ) والرجل الصالح يكون كنزه العلم لا المال إذ كنز المال لا يليق بالصلاح بدليل قوله تعالى : ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) [التوبة : 34] وقيل : كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله .
الفائدة الثالثة : قوله : ( وكان أبوهما صالحا ) يدل على أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء وعن جعفر بن محمد كان بين الغلامين وبين الأب الصالح سبعة آباء وعن الحسن بن علي أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما : بم حفظ الله مال الغلامين ؟ قال : بصلاح أبيهما ، قال : فأبي وجدي خير منه ؟ قال : قد أنبأنا الله أنكم قوم خصمون .
وذكروا أيضا أن ذلك الأب الصالح كان الناس يضعون الودائع إليه ؛ فيردها إليهم بالسلامة ، فإن قيل : اليتيمان هل عرف أحد منهما حصول الكنز تحت ذلك الجدار أو ما عرف أحد منهما ؟ فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار ، وإن كان الثاني ، فكيف يمكنهم بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز والانتفاع به ؟ الجواب : لعل اليتيمين كانا جاهلين به إلا أن وصيهما كان عالما به ، ثم ( إن ) ذلك الوصي غاب وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السقوط ، ولما قرر العالم هذه الجوابات قال : ( رحمة من ربك ) يعني إنما فعلت هذه الفعال لغرض أن تظهر رحمة الله تعالى لأنها بأسرها ترجع إلى حرف واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى كما قررناه ثم قال : ( وما فعلته عن أمري ) يعني ما فعلت ما رأيت من هذه الأحوال عن أمري واجتهادي ورأيي وإنما فعلته بأمر الله ووحيه ؛ لأن الإقدام على تنقيص أموال الناس وإراقة دمائهم لا يجوز إلا بالوحي والنص القاطع بقي في الآية سؤال ، وهو أنه قال : ( فأردت أن أعيبها ) وقال : ( فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة ) وقال : ( فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ) كيف اختلفت الإضافة في هذه الإرادات الثلاث وهي كلها في قصة واحدة وفعل واحد ؟ والجواب : أنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه فقال : أردت أن أعيبها ولما ذكر القتل ؛ عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيها على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية ، ولما ذكر رعاية مصالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله تعالى ؛ لأن المتكفل بمصالح الأبناء لرعاية حق الآباء ليس إلا الله سبحانه وتعالى .