( ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما )
قوله تعالى : ( ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما )
اعلم ذا القرنين لما بلغ المشرق والمغرب اتبع سببا آخر ، وسلك الطريق حتى بلغ بين السدين ، وقد آتاه الله من العلم والقدرة ما يقوم بهذه الأمور . وههنا مباحث : أن
الأول : قرأ حمزة والكسائي السدين بضم السين وسدا بفتحها حيث كان ، وقرأ حفص عن عاصم بالفتح فيهما في كل القرآن ، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالضم فيهما في كل القرآن ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو السدين وسدا ههنا بفتح السين فيهما وضمها في يس في الموضعين قال الكسائي : هما لغتان ، وقيل : ما كان من صنعة بني آدم فهو السد بفتح السين ، وما كان من صنع الله فهو السد بضم السين والجمع سدد ، وهو قول أبي عبيدة ، قال صاحب الكشاف : السد بالضم فعل بمعنى مفعول أي هو مما فعله الله وخلقه ، والسد بالفتح مصدر حدث يحدثه الناس . وابن الأنباري
البحث الثاني : الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال ، وقيل : جبلان بين أرمينية وبين أذربيجان ، وقيل : هذا المكان في مقطع أرض الترك ، وحكى في تاريخه أن صاحب محمد بن جرير الطبري أذربيجان أيام فتحها وجه إنسانا إليه من ناحية الخزر فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع ، وذكر ابن خرداذبة في كتاب المسالك والممالك أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن من حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل ، ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع ؛ أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند ، قال أبو الريحان : مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة ، والله أعلم بحقيقة الحال .
البحث الثالث : أن ذا القرنين لما بلغ ما بين السدين وجد من دونهما أي من ورائهما مجاوزا عنهما ( قوما ) أي أمة من الناس : ( لا يكادون يفقهون قولا ) قرأ حمزة والكسائي يفقهون بضم الياء وكسر القاف [ ص: 145 ] على معنى لا يمكنهم تفهيم غيرهم والباقون بفتح الياء والقاف ، والمعنى أنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم وما كانوا يفهمون اللسان الذي يتكلم به ذو القرنين ، ثم قال تعالى : ( قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) فإن قيل : كيف فهم ذو القرنين منهم هذا الكلام بعد أن وصفهم الله بقوله : ( لا يكادون يفقهون قولا ) والجواب : أن نقول كاد فيه قولان .
الأول : أن إثباته نفي ، ونفيه إثبات ، فقوله : ( لا يكادون يفقهون قولا ) لا يدل على أنهم لا يفهمون شيئا ، بل يدل على أنهم قد يفهمون على مشقة وصعوبة .
والقول الثاني : أن كاد معناه المقاربة ، وعلى هذا القول فقوله : ( لا يكادون يفقهون قولا ) أي لا يعلمون وليس لهم قرب من أن يفقهوا . وعلى هذا القول فلا بد من إضمار ، وهو أن يقال : لا يكادون يفهمونه إلا بعد تقريب ومشقة من إشارة ونحوها ، وهذه الآية تصلح أن يحتج بها على صحة القول الأول في . تفسير كاد
البحث الرابع : في يأجوج ومأجوج قولان :
الأول : أنهما اسمان أعجميان موضوعان بدليل منع الصرف .
والقول الثاني : أنهما مشتقان ، وقرأ عاصم يأجوج ومأجوج بالهمز . وقرأ الباقون : ياجوج وماجوج . وقرئ في رواية : آجوج ومأجوج ، والقائلون بكون هذين الاسمين مشتقين ذكروا وجوها .
الأول : قال الكسائي : " يأجوج " مأخوذ من تأجج النار وتلهبها فلسرعتهم في الحركة سموا بذلك ، و" مأجوج " من موج البحر .
الثاني : أن " يأجوج " مأخوذ من تأجج الملح وهو شدة ملوحته فلشدتهم في الحركة سموا بذلك .
الثالث : قال القتيبي : هو مأخوذ من قولهم أج الظليم في مشيه يئج أجا إذا هرول وسمعت حفيفه في عدوه .
الرابع : قال الخليل : الأج حب كالعدس والمج مج الريق فيحتمل أن يكونا مأخوذين منهما ، واختلفوا في أنهما من أي الأقوام فقيل : إنهما من الترك ، وقيل : ( يأجوج ) من الترك ، و ( مأجوج ) من الجيل والديلم ، ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة بكون طول أحدهم شبرا ، ومنهم من وصفهم بطول القامة وكبر الجثة وأثبتوا لهم مخاليب في الأظفار وأضراسا كأضراس السباع واختلفوا في كيفية إفسادهم في الأرض فقيل : كانوا يقتلون الناس وقيل كانوا يأكلون لحوم الناس ، وقيل كانوا يخرجون أيام الربيع ، فلا يتركون لهم شيئا أخضر وبالجملة فلفظ الفساد محتمل لكل هذه الأقسام ، والله أعلم بمراده ، ثم إنه تعالى حكى عن أهل ما بين السدين أنهم قالوا لذي القرنين : ( فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ) قرأ حمزة والكسائي خراجا ، والباقون خرجا . قيل : الخراج والخرج واحد ، وقيل هما أمران متغايران ، وعلى هذا القول اختلفوا : قيل : الخرج بغير ألف هو الجعل لأن الناس يخرج كل واحد منهم شيئا منه فيخرج هذا أشياء وهذا أشياء ، والخراج هو الذي يجبيه السلطان كل سنة .
وقال الفراء : الخراج هو الاسم الأصلي ، والخرج كالمصدر ، وقال قطرب : الخرج الجزية ، والخراج في الأرض ؛ فقال ذو القرنين : ( ما مكني فيه ربي خير فأعينوني ) أي ما جعلني مكينا من المال الكثير واليسار الواسع خير مما تبذلون من الخراج ؛ فلا حاجة بي إليه ، وهو كما قال سليمان عليه السلام : ( فما آتاني الله خير مما آتاكم ) [النمل : 36] قرأ ابن كثير : ( ما مكنني ) بنونين على الإظهار ، والباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام ، ثم قال ذو القرنين : ( فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ) أي لا حاجة لي في مالكم ولكن ( فأعينوني ) برجال وآلة أبني بها السد ، وقيل المعنى : ( أعينوني ) بمال أصرفه إلى هذا المهم ولا أطلب المال لآخذه لنفسي ، والردم هو السد . يقال : ردمت الباب أي سددته وردمت الثوب رقعته ؛ لأنه يسد الخرق بالرقعة ، والردم أكثر من السد من قولهم : ثوب مردوم أي وضعت عليه رقاع .