الصفة الثانية : قوله تعالى : ( آتاني الكتاب ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلف الناس فيه فالجمهور على أنه قال هذا الكلام حال صغره ، وقال أبو القاسم البلخي : إنه إنما قال ذلك حين كان كالمراهق الذي يفهم وإن لم يبلغ حد التكليف أما الأولون فلهم قولان :
أحدهما : أنه كان في ذلك الصغر نبيا .
الثاني : روي عن عكرمة عن رضي الله عنهما أنه قال : المراد بأن حكم وقضى بأنه سيبعثني من بعد ولما تكلم بذلك سكت وعاد إلى حال الصغر . ولما بلغ ثلاثين سنة بعثه الله نبيا ، واحتج من نص على فساد القول الأول بأمور : ابن عباس
أحدها : أن النبي لا يكون إلا كاملا والصغير ناقص الخلقة بحيث يعد هذا التحدي من الصغير منفرا بل هو في التنفير أعظم من أن يكون امرأة .
وثانيها : أنه لو كان نبيا في هذا الصغر لكان كمال عقله مقدما على ادعائه للنبوة إذ النبي لا بد وأن يكون كامل العقل لكن كمال عقله في ذلك الوقت خارق للعادة فيكون المعجز متقدما على التحدي وإنه غير جائز .
وثالثها : أنه لو كان نبيا في ذلك الوقت لوجب أن يشتغل ببيان الأحكام ، وتعريف الشرائع ولو وقع ذلك لاشتهر ولنقل فحيث لم يحصل ذلك علمنا أنه ما كان نبيا في ذلك الوقت . أجاب الأولون عن الكلام الأول بأن كون الصبي ناقصا ليس لذاته بل الأمر يرجع إلى صغر جسمه ونقصان فهمه ، فإذا أزال الله تعالى هذه الأشياء لم تحصل النفرة بل تكون الرغبة إلى استماع قوله وهو على هذه الصفة أتم وأكمل .
وعن الكلام الثاني لم لا يجوز أن يقال إكمال عقله وإن حصل مقدما على دعواه إلا أنه معجزة لزكريا عليه السلام ؟ أو يقال : إنه إرهاص لنبوته أو كرامة لمريم عليها السلام وعندنا الإرهاص والكرامات جائزة .
وعن الكلام الثالث لم لا يجوز أن يقال مجرد بعثته إليهم من غير بيان شيء من الشرائع والأحكام جائز ثم بعد البلوغ أخذ في شرح تلك الأحكام ، فثبت [ ص: 183 ] بهذا أنه لا امتناع في كونه نبيا في ذلك الوقت ؟
وقوله : ( آتاني الكتاب ) يدل على كونه نبيا في ذلك الوقت فوجب إجراؤه على ظاهره بخلاف ما قاله عكرمة ، أما قول أبي القاسم البلخي فبعيد وذلك لأن الحاجة إلى عيسى عليه السلام إنما كانت عند وقوع التهمة على كلام مريم عليها السلام .
المسألة الثانية : اختلفوا في ذلك الكتاب فقال بعضهم هو التوراة ؛ لأن الألف واللام في الكتاب تنصرف للمعهود والكتاب المعهود لهم هو التوراة ، وقال أبو مسلم : المراد هو الإنجيل ؛ لأن الألف واللام ههنا للجنس أي : آتاني من هذا الجنس ، وقال قوم : المراد هو التوراة والإنجيل ؛ لأن الألف واللام تفيد الاستغراق .
المسألة الثالثة : اختلفوا في أنه متى آتاه الكتاب ؟ ومتى جعله نبيا ؟ لأن قوله : ( آتاني الكتاب وجعلني نبيا ) يدل على أن ذلك كان قد حصل من قبل إما ملاصقا لذلك الكلام أو متقدما عليه بأزمان ، والظاهر أنه من قبل أن كلمهم آتاه الله الكتاب وجعله نبيا وأمره بالصلاة والزكاة وأن يدعو إلى الله تعالى وإلى دينه وإلى ما خص به من الشريعة ، فقيل هذا الوحي نزل عليه وهو في بطن أمه ، وقيل لما انفصل من الأم آتاه الله الكتاب والنبوة وأنه تكلم مع أمه وأخبرها بحاله وأخبرها بأنه يكلمهم بما يدل على براءة حالها فلهذا أشارت إليه بالكلام .