( وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا  رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا    ) . 
قوله تعالى : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا  رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا    ) . 
 [ ص: 204 ] اعلم أن في الآية إشكالا وهو أن قوله : ( تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا    ) كلام الله ، وقوله : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك    ) كلام غير الله فكيف جاز عطف هذا على ما قبله من غير فصل ؟  
والجواب : أنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كما أن قوله سبحانه : ( إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون    ) [ آل عمران : 47] هو كلام الله وقوله : ( وإن الله ربي وربكم    ) [ مريم : 36 ] كلام غير الله وأحدهما معطوف على الآخر ، واعلم أن ظاهر قوله تعالى : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك    ) خطاب جماعة لواحد وذلك لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول ويحتمل في سببه ما روي أن قريشا  بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة  يسألونهم عن صفة محمد    - صلى الله عليه وسلم - وهل يجدونه في كتابهم فسألوا النصارى  فزعموا أنهم لا يعرفونه وقالت اليهود    : نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمان اليمامة  عن خصال ثلاث فلم يعرف فاسألوه عنهن فإن أخبركم بخصلتين منهما فاتبعوه ، فاسألوه عن فتية أصحاب الكهف وعن ذي القرنين  وعن الروح قال فجاءوا فسألوه عن ذلك فلم يدر كيف يجيب فوعدهم أن يجيبهم بعد ذلك ، ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أربعين يوما وقيل خمسة عشر يوما فشق عليه ذلك مشقة شديدة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه ، فنزل جبريل    - عليه السلام - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - أبطأت عني حتى ساء ظني ، واشتقت إليك قال إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل قوله : (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا  إلا أن يشاء الله    ) [ الكهف : 23 - 24] وسورة الضحى . ثم أكدوا ذلك بقولهم : ( له ما بين أيدينا وما خلفنا    ) أي هو المدبر لنا في كل الأوقات الماضي والمستقبل وما بينهما أو الدنيا والآخرة وما بينهما ؛ فإنه يعلم إصلاح التدبير مستقبلا وماضيا ، وما بينهما والغرض أن أمرنا موكول إلى الله تعالى يتصرف فينا بحسب مشيئته وإرادته وحكمته لا اعتراض لأحد عليه فيه وقال أبو مسلم  قوله : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك    ) يجوز أن يكون قول أهل الجنة والمراد وما نتنزل الجنة إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا أي في الجنة مستقبلا وما خلفنا مما كان في الدنيا ، وما بين ذلك أي ما بين الوقتين ، وما كان ربك نسيا لشيء مما خلق فيترك إعادته ؛ لأنه عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة وقوله : ( وما كان ربك نسيا    ) ابتداء كلام منه تعالى في مخاطبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويتصل به : ( رب السماوات والأرض    ) أي بل هو ( رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده    ) قال القاضي وهذا مخالف للظاهر من وجوه : 
أحدها : أن ظاهر التنزل نزول الملائكة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم    - لقوله بأمر ربك وظاهر الأمر بحال التكليف أليق . 
وثانيها : أنه خطاب من جماعة لواحد وذلك لا يليق بمخاطبة بعضهم لبعض في الجنة . 
وثالثها : أن ما في سياقه من قوله : ( وما كان ربك نسيا  رب السماوات والأرض وما بينهما    ) لا يليق إلا بحال التكليف ولا يوصف به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكأنهم قالوا للرسول وما كان ربك يا محمد  نسيا يجوز عليه السهو حتى يضرك إبطاؤنا بالتنزل عليك إلى مثل ذلك ثم ههنا أبحاث : 
البحث الأول : قال صاحب " الكشاف " التنزل على معنيين : 
أحدهما : النزول على مهل . 
والثاني : بمعنى النزول على الإطلاق والدليل عليه أنه مطاوع نزل ، ونزل يكون بمعنى أنزل وبمعنى التدريج ، واللائق بمثل هذا الموضع هو النزول على مهل والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتا بعد وقت ليس إلا بأمر الله تعالى . 
البحث الثاني : ذكروا في قوله : ( ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك    ) وجوها : 
أحدها : له ما قدامنا وما خلفنا من الجهات وما نحن فيه فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومن مكان إلى مكان إلا بأمره ومشيئته ، فليس لنا أن ننقلب من السماء إلى الأرض إلا بأمره . 
وثانيها : له ما بين أيدينا ما سلف من أمر الدنيا   [ ص: 205 ] وما خلفنا ما يستقبل من أمر الآخرة ، وما بين ذلك وما بين النفختين وهو أربعون سنة . 
وثالثها : ما مضى من أعمارنا وما غبر من ذلك والحال التي نحن فيها . 
ورابعها : ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا . 
وخامسها : الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض ، وعلى كل التقديرات فالمقصود أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة فكيف نقدم على فعل إلا بأمره وحكمه . 
البحث الثالث : قوله : ( وما كان ربك نسيا    ) أي تاركا لك كقوله : ( ما ودعك ربك وما قلى    ) [ الضحى : 3 ] أي ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به ولم يكن ذلك عن ترك الله لك وتوديعه إياك ، أما قوله : ( رب السماوات والأرض وما بينهما    ) فالمراد أن من يكون ربا لها أجمع لا يجوز عليه النسيان إذ لا بد من أن يمسكها حالا بعد حال وإلا بطل الأمر فيهما ، وفيمن يتصرف فيهما ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى  ؛ لأن فعل العبد حاصل بين السماء والأرض ، والآية دالة على أنه رب لكل شيء حصل بينهما ، قال صاحب " الكشاف " : رب السماوات والأرض بدل من ربك ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السماوات والأرض فاعبده واصطبر لعبادته فهو أمر للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعبادة والمصابرة على مشاق التكاليف في الأداء والإبلاغ ، وفيما يخصه من العبادة فإن قيل لم لم يقل واصطبر على عبادته ، بل قال واصطبر لعبادته قلنا : لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته . " والمعنى " أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق فاثبت لها ، ولا تهن ولا يضق صدرك من إلقاء أهل الكتاب إليك الأغاليط عن احتباس الوحي عنك مدة ، وشماتة المشركين بك ، أما قوله تعالى : ( هل تعلم له سميا    ) فالظاهر يدل على أنه تعالى جعل علة الأمر بالعبادة والأمر بالمصابرة عليها أنه لا سمي له ، والأقرب هو كونه منعما بأصول النعم وفروعها وهي خلق الأجسام والحياة والعقل وغيرها ، فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه سبحانه ، فإذا كان هو قد أنعم عليك بغاية الإنعام وجب أن تعظمه بغاية التعظيم وهي العبادة ، ومن الناس من قال : المراد أنه سبحانه ليس له شريك في اسمه  وبينوا ذلك من وجهين : 
الأول : أنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله على شيء سواه وعن  ابن عباس    - رضي الله عنهما - لا يسمى بالرحمن غيره . 
الثاني : هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل ؟ لأن التسمية على الباطل في كونها غير معتد بها كلا تسمية ، والقول الأول هو الصواب والله أعلم . 
				
						
						
