المسألة الثالثة : احتج القائلون بجواز عليهم السلام بهذه الآية من وجوه : الذنب على الأنبياء
أحدها : أن أكثر المفسرين على أنه ذهب يونس مغاضبا لربه ، ويقال : هذا قول ابن مسعود وابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير ووهب ، واختيار ابن قتيبة ؛ فإذا كان كذلك فيلزم أن مغاضبته لله تعالى من أعظم الذنوب ، ثم على تقدير أن هذه المغاضبة لم تكن مع الله تعالى بل كانت مع ذلك الملك أو مع القوم ، فهو أيضا كان محظورا ؛ لأن الله تعالى قال : ( ومحمد بن جرير فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت ) [ القلم : 48 ] وذلك يقتضي أن ذلك الفعل من يونس كان محظورا .
وثانيها قوله تعالى : ( فظن أن لن نقدر عليه ) وذلك يقتضي كونه شاكا في قدرة الله تعالى .
وثالثها : قوله : ( إني كنت من الظالمين ) والظلم من أسماء الذم ؛ لقوله تعالى : ( ألا لعنة الله على الظالمين ) [ هود : 18 ] .
ورابعها : أنه لو لم يصدر منه الذنب ، فلم عاقبه الله بأن ألقاه في بطن الحوت؟ .
وخامسها : قوله تعالى في آية أخرى : ( فالتقمه الحوت وهو مليم ) [ الصافات : 142 ] ، والمليم هو ذو الملامة ، ومن كان كذلك فهو مذنب .
وسادسها : قوله : ( ولا تكن كصاحب الحوت ) فإن لم يكن صاحب الحوت مذنبا لم يجز النهي عن التشبه به ، وإن كان مذنبا فقد حصل الغرض .
وسابعها : أنه قال : ( ولا تكن كصاحب الحوت ) وقال : ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ) [ الأحقاف : 35 ] ؛ فلزم أن لا يكون يونس من أولي العزم ، وكان موسى من أولي العزم ، ثم قال : في حقه : ابن عمران حيا ما وسعه إلا اتباعي وقال في لو كان يونس : يونس بن متى وهذا خارج عن تفسير الآية ، والجواب عن الأول أنه ليس في الآية من غاضبه ، لكنا نقطع على أنه لا تفضلوني على ؛ لأن ذلك صفة من يجهل كون الله مالكا للأمر والنهي , والجاهل بالله لا يكون مؤمنا فضلا عن أن يكون نبيا ، وأما ما روي أنه خرج مغاضبا لأمر يرجع إلى الاستعداد ، وتناول النفل ، فمما يرتفع حال الأنبياء عليهم السلام عنه ؛ لأن الله تعالى إذا أمرهم بشيء فلا يجوز أن يخالفوه لقوله تعالى : ( لا يجوز على نبي الله أن يغاضب ربه وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) [ الأحزاب : 36 ] وقوله : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) [ النساء : 65 ] إلى قوله : ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ) [ ص: 186 ] [ النساء : 65 ] فإذا كان في الاستعداد مخالفة لم يجز أن يقع ذلك منهم ، وإذا ثبت أنه لا يجوز صرف هذه المغاضبة إلى الله تعالى ، وجب أن يكون المراد أنه خرج مغاضبا لغير الله ، والغالب أنه إنما يغاضب من يعصيه فيما يأمره به فيحتمل قومه أو الملك أو هما جميعا ، ومعنى مغاضبته لقومه أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العذاب عليهم عندها ، وقرأ أبو شرف "مغضبا" .
أما قوله : مغاضبة القوم أيضا كانت محظورة ؛ لقوله تعالى : ( ولا تكن كصاحب الحوت ) قلنا : لا نسلم أنها كانت محظورة ، فإن الله تعالى أمره بتبليغ تلك الرسالة إليهم ، وما أمره بأن يبقى معهم أبدا فظاهر الأمر لا يقتضي التكرار ، فلم يكن خروجه من بينهم معصية ، وأما الغضب فلا نسلم أنه معصية ، وذلك لأنه لما لم يكن منهيا عنه قبل ذلك ، فظن أن ذلك جائز ، من حيث إنه لم يفعله إلا غضبا لله تعالى ، وأنفة لدينه ، وبغضا للكفر وأهله ، بل كان الأولى له أن يصابر وينتظر الإذن من الله تعالى في المهاجرة عنهم ، ولهذا قال تعالى : ( ولا تكن كصاحب الحوت ) كأن الله تعالى أراد لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل المنازل وأعلاها .
والجواب عن الشبهة الثانية : وهي التمسك بقوله تعالى : ( فظن أن لن نقدر عليه ) أن نقول فهو كافر ، ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين ، فكيف إلى الأنبياء عليهم السلام ، فإذن لا بد فيه من التأويل وفيه وجوه : من ظن عجز الله تعالى
أحدها : ( فظن أن لن نقدر عليه ) لن نضيق عليه ، وهو كقوله تعالى : ( الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ) [ العنكبوت : 62 ] أي يضيق : ( ومن قدر عليه رزقه ) [الطلاق : 7 ] أي ضيق : ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ) [ الفجر : 16 ] أي ضيق ومعناه أن لن نضيق عليه .
واعلم أن على هذا التأويل تصير الآية حجة لنا ، وذلك لأن يونس عليه السلام ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج ، وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره ، وكان في المعلوم أن الصلاح في تأخر خروجه ، وهذا من الله تعالى بيان لما يجري مجرى العذر له من حيث خرج ، لا على تعمد المعصية ، لكن لظنه أن الأمر في خروجه موسع يجوز أن يقدم ويؤخر ، وكان الصلاح خلاف ذلك .
وثانيها : أن يكون هذا من باب التمثيل ، بمعنى فكانت حالته ممثلة بحالة من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار لأمر الله تعالى .
وثالثها : أن تفسر القدرة بالقضاء ، فالمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة ، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي ، ورواية العوفي عن - رضي الله عنهم - واختيار ابن عباس الفراء والزجاج ، قال الزجاج : "نقدر" بمعنى نقدر . يقال : قدر الله الشيء قدرا وقدره تقديرا ، فالقدر بمعنى التقدير ، وقرأ عمر بن عبد العزيز : " فظن أن لن نقدر عليه " بضم النون والتشديد ؛ من التقدير ، وقرأ والزهري بالتشديد على المجهول وقرأ عبيد بن عمير يعقوب : " يقدر عليه " بالتخفيف على المجهول .
وروي أنه دخل - رضي الله عنهما - على ابن عباس معاوية رضي الله عنه ، فقال معاوية : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها ، فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك فقال : وما هي ؟ قال : يظن نبي الله أن لن يقدر الله عليه ؟ فقال - رضي الله عنهما - هذا من القدر لا من القدرة . ابن عباس
ورابعها : أن لن نقدر : أي فظن أن لن نفعل ؛ لأن بين القدرة والفعل مناسبة فلا يبعد جعل أحدهما مجازا عن الآخر .
وخامسها : أنه استفهام بمعنى التوبيخ ، معناه أفظن أن لن نقدر عليه عن ابن زيد .
وسادسها : أن على قول من يقول : هذه الواقعة كانت قبل رسالة يونس عليه السلام كان هذا الظن حاصلا قبل الرسالة ، ولا يبعد في حق غير الأنبياء والرسل أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان ، ثم إنه يرده بالحجة والبرهان .
والجواب عن الثالث : وهو التمسك بقوله : ( إني كنت من الظالمين ) فهو أن نقول : إنا لو حملناه على ما قبل النبوة فلا كلام ، ولو حملناه على ما بعدها فهي واجبة [ ص: 187 ] التأويل ؛ لأنا لو أجريناها على ظاهرها ، لوجب القول بكون النبي مستحقا للعن ، وهذا لا يقوله مسلم ، وإذا وجب التأويل فنقول : لا شك أنه ، فكان ذلك ظلما . كان تاركا للأفضل مع القدرة على تحصيل الأفضل
والجواب عن الرابع : أنا لا نسلم أن ذلك كان عقوبة إذ ، بل المراد به المحنة ، لكن كثير من المفسرين يذكرون في كل مضرة تفعل لأجل ذنب أنها عقوبة . الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا
والجواب عن الخامس : أن الملامة كانت بسبب ترك الأفضل .