( وله من في السماوات والأرض كل له قانتون وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم )
ثم قال تعالى : ( وله من في السماوات والأرض كل له قانتون وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم )
لما ذكر الآيات وكان مدلولها القدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر ، والوحدانية التي هي الأصل الأول ، أشار إليها بقوله : ( وله من في السماوات والأرض ) يعني لا شريك له أصلا ; لأن كل من في السماوات وكل من في الأرض له وملكه ، فكل له منقادون قانتون ، والشريك يكون منازعا مماثلا ، فلا شريك له أصلا ، ثم ذكر المدلول الآخر ، فقال تعالى : ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) أي في نظركم الإعادة أهون من الإبداء لأن من يفعل فعلا أولا يصعب عليه ، ثم إذا فعل بعد ذلك مثله يكون أهون ، وقيل المراد هو هين عليه كما قيل في قول القائل : الله أكبر أي كبير ، وقيل المراد هو أهون عليه أي ; لأن في البدء يكون علقة ثم مضغة ثم لحما ثم عظما ثم يخلق بشرا ثم يخرج طفلا يترعرع إلى غير ذلك فيصعب عليه ذلك كله ، وأما في الإعادة فيخرج [ ص: 103 ] بشرا سويا بكن فيكون أهون عليه ، والوجه الأول أصح وعليه نتكلم فنقول : هو أهون يحتمل أن يكون ذلك ; لأن في البدء خلق الأجزاء وتأليفها ، والإعادة تأليف ، ولا شك أن الأمر الواحد أهون من أمرين ، ولا يلزم من هذا أن يكون غيره فيه صعوبة ، ولنبين هذا فنقول : الهين هو ما لا يتعب فيه الفاعل ، والأهون ما لا يتعب فيه الفاعل بالطريق الأولى ، فإذا قال قائل إن الرجل القوي لا يتعب من نقل شعيرة من موضع إلى موضع ، وسلم السامع له ذلك ، فإذا قال فكونه لا يتعب من نقل خردلة يكون ذلك كلاما معقولا مبقي على حقيقته . الإعادة أهون على الخالق من الابتداء
ثم قال تعالى : ( وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) أي قولنا هو أهون عليه يفهم منه أمران . أحدهما : هو ما يكون في الآخر تعب كما يقال إن نقل الخفيف أهون من نقل الثقيل .
والآخر : هو ما ذكرنا من الأولوية من غير لزوم تعب في الآخر ، فقوله : ( وله المثل الأعلى ) إشارة إلى أن كونه أهون بالمعنى الثاني لا يفهم منه الأول ، وهاهنا فائدة ذكرها صاحب " الكشاف " وهي أن الله تعالى قال في موضع آخر : ( هو علي هين ) [ مريم : 9 ] وقال هاهنا : وهو أهون عليه فقدم هناك كلمة علي وأخرها هنا ، وذلك لأن المعنى الذي قال هناك إنه هين هو خلق الولد من العجوز ، وأنه صعب على غيره وليس بهين إلا عليه فقال : ( هو علي هين ) [ مريم : 9 ] يعني لا على غيري ، وأما هاهنا المعنى الذي ذكر أنه أهون هو الإعادة ، والإعادة على كل مبدئ أهون ، فقال : وهو أهون عليه لا على سبيل الحصر ، فالتقديم هناك كان للحصر ، وقوله تعالى : ( وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ) على الوجه الأول وهو قولنا أهون عليه بالنسبة إليكم له معنى ، وعلى الوجه الذي ذكرناه له معنى ، أما على الوجه الأول فلما قال : ( وله المثل الأعلى ) وكان ذلك مثلا مضروبا لمن في الأرض من الناس ، فيفيد ذلك أن له المثل الأعلى من أمثلة الناس وهم أهل الأرض ولا يفيد أن له المثل الأعلى من أمثلة الملائكة فقال : ( وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ) يعني هذا مثل مضروب لكم ( وله المثل الأعلى ) من هذا المثل ومن كل مثل يضرب في السماوات ، وأما على الوجه الثاني فمعناه أن له المثل الأعلى أي فعله وإن شبهه بفعلكم ومثله به ، لكن ذاته ليس كمثله شيء فله المثل الأعلى وهو منقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . وقيل : المثل الأعلى أي الصفة العليا وهي لا إله إلا الله ، وقوله تعالى : ( وهو العزيز الحكيم ) أي كامل القدرة على الممكنات ، شامل العلم بجميع الموجودات ، فيعلم الأجزاء في الأمكنة ويقدر على جمعها وتأليفها .