الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


                                                                                                                                                                                                                                            ( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن هذا من نوع آخر من تقرير الوعيد والوعد ، أما الوعيد فقوله تعالى : ( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) وفيه بحثان ، أحدهما : أن هذا التكذيب كيف هو؟ والثاني : أن هذا السواد كيف هو؟

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : عن حقيقة هذا التكذيب ، فنقول : المشهور أن الكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ، ومنهم من قال : هذا القدر لا يكون كذبا بل الشرط في كونه كذبا أن يقصد الإتيان بخبر يخالف المخبر عنه ، إذا عرفت هذا الأصل فنذكر أقوال الناس في هذه الآية :

                                                                                                                                                                                                                                            قال الكعبي : ويرد الجبر بأن هذه الآية وردت عقيب قوله : ( لو أن الله هداني ) يعني أنه ما هداني بل أضلني ، فلما حكى الله عن الكفار ثم ذكر عقيبه ( ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) وجب أن يكون هذا عائدا إلى ذلك الكلام المتقدم ، ثم روي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما بال أقوام يصلون ويقرءون القرآن ، يزعمون أن الله كتب الذنوب على العباد ، وهم كذبة على الله ، والله مسود وجوههم " . واعلم أن أصحابنا قالوا : آخر الآية يدل على فساد هذا التأويل ؛ لأنه تعالى قال في آخر الآية : ( أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ) وهذا يدل على أن أولئك الذين صارت وجوههم مسودة أقوام متكبرون ، والتكبر لا يليق بمن يقول : أنا لا أقدر على الخلق والإعادة والإيجاد ، وإنما القادر عليه هو الله سبحانه وتعالى ، أما الذين يقولون : إن الله يريد شيئا وأنا أريد بضده ، فيحصل مرادي ولا يحصل مراد الله ، فالتكبر بهذا القائل أليق ، فثبت أن هذا التأويل الذي ذكروه فاسد ، ومن الناس من قال : إن هذا الوعيد مختص باليهود والنصارى ، ومنهم من قال : [ ص: 9 ] إنه مختص بمشركي العرب ، قال القاضي : يجب حمل الآية على الكل من المشبهة والمجبرة ، وكذلك كل من وصف الله بما لا يليق به نفيا وإثباتا ، فأضاف إليه ما يجب تنزيهه عنه أو نزهه عما يجب أن يضاف إليه ، فالكل منهم داخلون تحت هذه الآية ; لأنهم كذبوا على الله ، فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة أو اليهود والنصارى لا يجوز ، واعلم أنا لو أجرينا هذه الآية على عمومها كما ذكره القاضي لزمه تكفير الأمة ; لأنك لا ترى فرقة من فرق الأمة إلا وقد حصل بينهم اختلاف شديد في صفات الله تعالى ، ألا ترى أنه حصل الاختلاف بين أبي هاشم وأهل السنة في مسائل كثيرة من صفات الله تعالى ، ويلزم على قانون قول القاضي تكفير أحدهما ، فثبت أنه يجب أن يحمل الكذب المذكور في الآية على ما إذا قصد الإخبار عن الشيء مع أنه يعلم أنه كاذب فيما يقول ، ومثال هذا كفار قريش فإنهم كانوا يصفون تلك الأصنام بالإلهية مع أنهم كانوا يعلمون بالضرورة أنها جمادات ، وكانوا يقولون : إن الله تعالى حرم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، مع أنهم كانوا ينكرون القول بأن الله حرم كذا وأباح كذا ، وكان قائله عالما بأنه كذب ، وإذا كان كذلك فإلحاق مثل هذا الوعيد بهذا الجاهل الكذاب الضال المضل يكون مناسبا ، أما من لم يقصد إلا الحق والصدق لكنه أخطأ ، يبعد إلحاق هذا الوعيد به .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : الكلام في كيفية السواد الحاصل في وجوههم ، والأقرب أنه سواد مخالف لسائر أنواع السواد ، وهو سواد يدل على الجهل بالله والكذب على الله ، وأقول : إن الجهل ظلمة ، والظلمة تتخيل كأنها سواد ، فسواد قلوبهم أوجب سواد وجوههم ، وتحت هذا الكلام أسرار عميقة من مباحث أحوال القيامة ، فلما ذكر الله هذا الوعيد أردفه بالوعد فقال : ( وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم ) الآية ، قال القاضي : المراد به من اتقى كل الكبائر ؛ إذ لا يوصف بالاتقاء المطلق إلا من كان هذا حاله ، فيقال له : أمرك عجيب جدا فإنك قلت لما تقدم قوله تعالى : ( لو أن الله هداني لكنت من المتقين ) وجب أن يحمل قوله : ( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) على الذين قالوا : ( لو أن الله هداني ) فعلى هذا القانون لما تقدم قوله : ( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) ثم قال تعالى بعده : ( وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم ) وجب أن يكون المراد هم الذين اتقوا ذلك الكذب ، فهذا يقتضي أن كل من لم يتصف بذلك الكذب أنه يدخل تحت ذلك الوعد المذكور بقوله : ( وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم ) وأن يكون قولك : ( الذين اتقوا ) المراد منه من اتقى كل الكبائر فاسدا ، فثبت أن التعصب يحمل الرجل العاقل على الكلمات المتناقضة ، بل الحق أن تقول : المتقي هو الآتي بالاتقاء ، والآتي بالاتقاء في صورة واحدة آت بمسمى الاتقاء ، وبهذا الحرف قلنا : الأمر المطلق لا يفيد التكرار ، ثم ذلك الاتقاء غير مذكور بعينه في هذه اللفظة فوجب حمله على الاتقاء عن الشيء الذي سبق ذكره ، وهذا هو الكذب على الله تعالى ، فثبت أن ظاهر الآية يقتضي أن من اتقى عن تلك الصفة وجب دخوله تحت هذا الوعد الكريم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( بمفازتهم ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم "بمفازاتهم" على الجمع ، والباقون بمفازتهم على التوحيد ، وحكى الواحدي عن الفراء أنه قال : كلاهما صواب ; إذ يقال في الكلام : قد تبين أمر القوم ، [ ص: 10 ] وأمور القوم ، قال أبو علي الفارسي : الإفراد للمصدر ووجه الجمع أن المصادر قد تجمع إذا اختلفت أجناسها ، كقوله تعالى : ( وتظنون بالله الظنون ) [الأحزاب : 10] ولا شك أن لكل متق نوعا آخر من المفازة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة ، فكأن المعنى أن النجاة في القيامة حصلت بسبب فوزهم في الدنيا بالطاعات والخيرات ، فعبر عن الفوز بأوقاتها ومواضعها .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ) والمراد أنه كالتفسير لتلك النجاة ، كأنه قيل : كيف ينجيهم؟ فقيل : ( لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ) وهذه كلمة جامعة ; لأنه إذا علم أنه لا يمسه السوء كان فارغ البال بحسب الحال عما وقع في قلبه بسبب فوات الماضي ، فحينئذ يظهر أنه سلم عن كل الآفات ، ونسأل الله الفوز بهذه الدرجات بمنه وكرمه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : دلت الآية على أن المؤمنين لا ينالهم الخوف والرعب في القيامة ، وتأكد هذا بقوله : ( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية