المسألة الثالثة : في تفسير ألفاظ الآية ، قوله : ( والأرض ) المراد منه الأرضون السبع ، ويدل عليه وجوه :
الأول : قوله : ( جميعا ) فإن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع ونظيره قوله : ( كل الطعام ) [آل عمران : 93] وقوله تعالى : ( أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) [النور : 31] وقوله تعالى : ( والنخل باسقات ) [ق : 10] وقوله تعالى : ( إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) [العصر : 2 ، 3] فإن هذه الألفاظ الملحة باللفظ المفرد تدل على أن المراد منه الجمع ، فكذا هاهنا .
والثاني : أنه قال بعده : ( والسماوات مطويات ) فوجب أن يكون المراد بالأرض الأرضون .
الثالث : أن الموضع موضع تعظيم وتفخيم ، فهذا مقتضى المبالغة ، وأما القبضة فهي المرة الواحدة من القبض ، قال تعالى : ( فقبضت قبضة من أثر الرسول ) [طه : 96] والقبضة بالضم المقدار المقبوض بالكف ، ويقال أيضا : أعطني قبضة من كذا ، يريد معنى القبضة تسمية بالمصدر ، والمعنى والأرضون جميعا قبضته أي ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة من قبضاته ، يعني أن ، أما إذا أريد معنى القبضة فظاهر ; لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة ، فإن قيل : ما وجه قراءة من قرأ (قبضته) بالنصب ؟ قلنا : جعل القبضة ظرفا . وقوله : ( الأرضين مع ما لها من العظمة والبسطة لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته مطويات ) من الطي الذي هو ضد النشر كما قال تعالى : ( يوم نطوي السماء كطي السجل ) [الأنبياء : 104] وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه ، ثم قال صاحب الكشاف : وقيل : قبضته ملكه ، ويمينه قدرته ، وقيل : مطويات بيمينه ؛ أي مفنيات بقسمه ؛ لأنه أقسم أن يقبضها .
ولما ذكر هذه الوجوه عاد إلى القول الأول بأنها وجوه ركيكة ، وأن حمل هذا الكلام على محض التمثيل أولى ، وبالغ في تقرير هذا الكلام فأطنب ، وأقول : إن حال هذا الرجل في إقدامه على تحسين طريقته وتقبيح طريقة القدماء عجيب جدا ، فإنه إن كان مذهبه أنه يجوز ترك ظاهر اللفظ والمصير إلى المجاز من غير دليل ، فهذا طعن في القرآن وإخراج له عن أن يكون حجة في شيء ، وإن كان مذهبه أن الأصل في الكلام الحقيقة ، وأنه لا يجوز العدول عنه إلا لدليل منفك ، فهذه هي الطريقة التي أطبق عليها جمهور المتقدمين ، فأين الكلام الذي يزعم أنه علمه؟ وأين العلم الذي لم يعرفه غيره؟ مع أنه وقع في التأويلات العسر والكلمات الركيكة ، فإن قالوا : المراد أنه لما دل الدليل على أنه ليس هذه الأعضاء ، وجب علينا أن نكتفي بهذا القدر ولا نشتغل بتعيين المراد ، بل نفوض علمه إلى الله تعالى ، فنقول : هذا هو طريق الموحدين الذين يقولون : إنا نعلم ليس مراد الله من هذه الألفاظ هذه الأعضاء ، فأما تعيين المراد ، فإنا نفوض ذلك العلم إلى الله تعالى ، فهذه هي طريقة السلف المعرضين عن التأويلات ، فثبت أن هذه التأويلات التي أتى بها هذا الرجل ليس تحتها شيء من الفائدة أصلا ، والله أعلم . [ ص: 16 ] واعلم أنه تعالى لما بين عظمته من الوجه الذي تقدم قال : ( المراد من لفظ القبضة واليمين سبحانه وتعالى عما يشركون ) يعني أن هذا القادر القاهر العظيم الذي حارت العقول والألباب في وصف عظمته ، تنزه وتقدس عن أن تجعل الأصنام شركاء له في المعبودية ، فإن قيل : السؤال على هذا الكلام من وجوه :
الأول : أن العرش أعظم من السماوات السبع والأرضين السبع ، ثم إنه قال في صفة العرش : ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) [الحاقة : 17] وإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين العرش العظيم ، فكيف يجوز تقدير عظمة الله بكونه حاملا للسماوات والأرض؟
السؤال الثاني : أن قوله : ( والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ) شرح حالة لا تحصل إلا في يوم القيامة ، والقوم ما شاهدوا ذلك ، فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم يكونون معترفين بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء الله تعالى ، فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم ، وإن كان هذا الخطاب مع المكذبين بالنبوة وهم ينكرون قوله : ( والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ) فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك؟