واعلم أنه إذا تأكدت النفرة عن الشيء صارت تلك النفرة في القلب فإذا سمع منه كلاما لم يفهم معناه كما ينبغي ، وإذا رآه لم تصر تلك الرؤية سببا للوقوف على دقائق أحوال ذلك المرئي ، وذلك المدرك والشاعر هو النفس ، وشدة نفرة النفس عن الشيء تمنعها من التدبر والوقوف على دقائق ذلك الشيء ، فإذا كان الأمر كذلك كان قولهم ( قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ) استعارات كاملة في إفادة المعنى المراد ، فإن قيل : إنه تعالى حكى هذا المعنى عن الكفار في معرض الذم ، وذكر أيضا ما يقرب منه في معرض الذم ، فقال : ( وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم ) [ البقرة : 88 ] .
ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء الثلاثة بعينها في معرض التقرير والإثبات في سورة الأنعام ، فقال : ( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ) [ الأنعام : 25 ] فكيف الجمع بينهما ؟ قلنا إنه لم يقل ههنا إنهم كذبوا في ذلك ، إنما الذي ذمهم عليه أنهم قالوا : إنا إذا كنا كذلك لم يجز تكليفنا ، وتوجيه الأمر والنهي علينا ، وهذا الثاني باطل ، أما الأول فلأنه ليس في الآية ما يدل على أنهم كذبوا فيه .
واعلم أنهم لما وصفوا أنفسهم بهذه الصفات الثلاثة ، قالوا ( فاعمل إننا عاملون ) والمراد فاعمل على دينك إننا عاملون على ديننا ، ويجوز أن يكون المراد فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك ، والحاصل عندنا أن القوم ما كذبوا في قولهم ( قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ) بل إنما أتوا بالكفر والكلام الباطل في قولهم ( فاعمل إننا عاملون ) .
ولما حكى الله عنهم هذه الشبهة أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن هذه الشبهة بقوله : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ) وبيان هذا الجواب كأنه يقول : إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبرا وقهرا فإني بشر مثلكم ولا امتياز بيني وبينكم إلا بمجرد أن الله عز وجل أوحى إلي ، وما أوحى إليكم فأنا أبلغ هذا الوحي إليكم ، ثم بعد ذلك إن شرفكم الله بالتوحيد والتوفيق قبلتموه ، وإن خذلكم بالحرمان رددتموه ، وذلك لا يتعلق بنبوتي ورسالتي ، ثم بين أن خلاصة ذلك الوحي ترجع إلى أمرين : العلم والعمل ، أما العلم فالرأس [ ص: 86 ] والرئيس فيه معرفة التوحيد ؛ ذلك لأن وهو المراد من قوله ( الحق هو أن الله واحد أنما إلهكم إله واحد ) وإذا كان الحق في نفس الأمر ذلك ، وجب علينا أن نعترف به ، وهو المراد من قوله : ( فاستقيموا إليه ) ونظيره قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) [ الفاتحة : 6 ] وقوله : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) [ فصلت : 30 ] وقوله تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ) [ الأنعام : 153 ] وفي قوله تعالى : ( فاستقيموا إليه ) وجهان :
الأول : فاستقيموا متوجهين إليه .
الثاني : أن يكون قوله : ( فاستقيموا إليه ) معناه فاستقيموا له لأن حروف الجر يقام بعضها مقام البعض .
واعلم أن التكليف له ركنان : أحدهما : الاعتقاد ، والرأس والرئيس فيه اعتقاد التوحيد ، فلما أمر بذلك انتقل إلى وظيفة العمل والرأس والرئيس فيه الاستغفار ؛ فلهذا السبب قال : ( واستغفروه ) فإن قيل : المقصود من الاستغفار والتوبة إزالة ما لا ينبغي ، وذلك مقدم على فعل ما ينبغي ، فلم عكس هذا الترتيب ههنا وقدم ما ينبغي على إزالة ما ينبغي ؟ قلنا : ليس المراد من هذا الاستغفار الاستغفار عن الكفر ، بل المراد منه أن يعمل ثم يستغفر بعده لأجل الخوف من وقوع التقصير في العمل الذي أتى به كما قال صلى الله عليه وسلم : ولما رغب الله تعالى في الخير والطاعة أمر بالتحذير عما لا ينبغي ، فقال : ( " وإنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة " وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ) وفي هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : وجه النظم في هذه الآية من وجوه :
الأول : أن العقول والشرائع ناطقة بأن خلاصة السعادات مربوطة بأمرين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله ؛ وذلك لأن الموجودات ، إما الخالق وإما الخلق ، فأما الخالق فكمال السعادة في المعاملة معه أن يقر بكونه موصوفا بصفات الجلال والعظمة ، ثم يأتي بأفعال دالة على كونه في نهاية العظمة في اعتقادنا وهذا هو المراد من التعظيم لأمر الله ، وأما الخلق فكمال السعادة في المعاملة معهم أن يسعى في دفع الشر عنهم وفي إيصال الخير إليهم ، وذلك هو المراد من الشفقة على خلق الله ، فثبت أن ، وأفضل أبواب التعظيم لأمر الله الإقرار بكونه واحدا وإذا كان التوحيد أعلى المراتب وأشرفها كان ضده وهو الشرك أخس المراتب وأرذلها ، ولما كان أفضل أنواع المعاملة مع الخلق هو إظهار الشفقة عليهم كان الامتناع من الزكاة أخس الأعمال ؛ لأنه ضد الشفقة على خلق الله ، إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى أثبت الويل لمن كان موصوفا بصفات ثلاثة : أعظم الطاعات التعظيم لأمر الله
أولها : أن يكون مشركا وهو ضد التوحيد ، وإليه الإشارة بقوله : ( وويل للمشركين ) وثانيها : كونه ممتنعا من الزكاة ، وهو ضد الشفقة على خلق الله ، وإليه الإشارة بقوله : ( الذين لا يؤتون الزكاة ) وثالثها : كونه منكرا للقيامة مستغرقا في طلب الدنيا ولذاتها ، وإليه الإشارة بقوله ( وهم بالآخرة هم كافرون ) وتمام الكلام في أنه لا زيادة على هذه المراتب الثلاثة أن الإنسان له ثلاثة أيام : الأمس واليوم والغد ، أما معرفة أنه كيف كانت أحوال الأمس في الأزل فهو بمعرفة الله تعالى الأزلي الخالق لهذا العالم .
وأما معرفة أنه كيف ينبغي وقوع الأحوال في اليوم الحاضر فهو بالإحسان إلى أهل العالم بقدر الطاقة ، وأما معرفة الأحوال في اليوم المستقبل فهو الإقرار بالبعث والقيامة ، وإذا كان الإنسان على ضد الحق في هذه المراتب الثلاثة كان في نهاية الجهل والضلال ، فلهذا حكم الله عليه بالويل ، فقال : ( وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ) وهذا ترتيب في غاية الحسن ، والله أعلم .
الوجه الثاني : في تقرير كيفية النظم أن يقال : المراد بقوله : ( لا يؤتون الزكاة ) أي لا يزكون أنفسهم من لوث الشرك بقولهم : لا إله إلا الله ، وهو مأخوذ من قوله تعالى : ( ونفس وما سواها ) [ الشمس : 7 ]
[ ص: 87 ] الثالث : قال الفراء : إن قريشا كانت تطعم الحاج ، فحرموا ذلك على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم .
المسألة الثانية : احتج أصحابنا في إثبات أن بهذه الآية ، فقالوا إنه تعالى ألحق الوعيد الشديد بناء على أمرين : أحدهما : كونه مشركا ، والثاني : أنه لا يؤتي الزكاة ، فوجب أن يكون لكل واحد من هذين الأمرين تأثير في حصول ذلك الوعيد ، وذلك يدل على أن لعدم إيتاء الزكاة من المشرك تأثيرا عظيما في زيادة الوعيد ، وذلك هو المطلوب . الكفار مخاطبون بفروع الإسلام
المسألة الثالثة : احتج بعضهم على أن يوجب الكفر ، فقال : إنه تعالى لما ذكر هذه الصفة ذكر قبلها ما يوجب الكفر ، وهو قوله : ( الامتناع من إيتاء الزكاة وويل للمشركين ) وذكر أيضا بعدها ما يوجب الكفر ، وهو قوله : ( وهم بالآخرة هم كافرون ) فلو لم يكن عدم إيتاء الزكاة كفرا لكان ذكره فيما بين الصفتين الموجبتين للكفر قبيحا ؛ لأن الكلام إنما يكون فصيحا إذا كانت المناسبة مرعية بين أجزائه ، ثم أكدوا ذلك بأن رضي الله عنه حكم بكفر مانعي الزكاة ، والجواب : لما ثبت بالدليل أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب والإقرار باللسان ، وهما حاصلان عند عدم إيتاء الزكاة ، فلم يلزم حصول الكفر بسبب عدم إيتاء الزكاة ، والله أعلم . أبا بكر الصديق
ثم إنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أردفه بوعد المؤمنين ، فقال : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ) أي غير مقطوع ، من قولك : مننت الحبل ، أي قطعته ، ومنه قولهم : قد منه السفر ، أي قطعه ، وقيل : لا يمن عليهم ، لأنه تعالى لما سماه أجرا ، فإذا الأجر لا يوجب المنة ، وقيل : نزلت في كتب لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملون . المرضى والزمنى إذا عجزوا عن الطاعة