( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون )
قوله تعالى : ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون )
اعلم أن الكلام إنما ابتدئ من قوله ( أنما إلهكم إله واحد ) [ فصلت : 6 ] واحتج عليه بقوله ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ) [ فصلت : 9 ] وحاصله أن الإله الموصوف بهذه القدرة القاهرة كيف يجوز الكفر به ، وكيف يجوز جعل هذه الأجسام الخسيسة شركاء له في الإلهية ؟ ولما تمم تلك الحجة قال : ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) وبيان ذلك لأن وظيفة الحجة قد تمت على أكمل الوجوه ، فإن بقوا مصرين على الجهل لم يبق حينئذ علاج في حقهم إلا إنزال العذاب عليهم فلهذا السبب قال : ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم ) بمعنى : إن أعرضوا عن قبول هذه الحجة القاهرة التي ذكرناها [ ص: 96 ] وأصروا على الجهل والتقليد ( فقل أنذرتكم ) والإنذار هو : التخويف ، قال : والصاعقة الثائرة المهلكة لأي شيء كان ، وقرئ ( صعقة مثل صعقة عاد وثمود ) قال صاحب " الكشاف " وهي المرة من الصعق . المبرد
ثم قال : ( إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ) وفيه وجهان :
الأول : المعنى أن الرسل المبعوثين إليهم أتوهم من كل جانب واجتهدوا بهم وأتوا بجميع وجوه الحيل فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض ، كما حكى الله تعالى عن الشيطان قوله : ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم ) [ الأعراف : 17 ] يعني لآتينهم من كل جهة ولأعملن فيهم كل حيلة ، ويقول الرجل : استدرت بفلان من كل جانب فلم تؤثر حيلتي فيه .
السؤال الثاني : المعنى : أن الرسل جاءتهم من قبلهم ومن بعدهم ، فإن قيل : الرسل الذين جاءوا من قبلهم ومن بعدهم ، كيف يمكن وصفهم بأنهم جاءوهم ؟ قلنا : جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ، وبهذا التقدير فكأن جميع الرسل قد جاءوهم .
ثم قال : ( ألا تعبدوا إلا الله ) يعني أن الرسل الذين جاءوهم من بين أيديهم ومن خلفهم أمروهم بالتوحيد ونفي الشرك ، قال صاحب " الكشاف " أن في قوله ( ألا تعبدوا إلا الله ) بمعنى أي أو مخففة من الثقيلة أصله بأنه لا تعبدوا أي بأن الشأن والحديث قولنا لكم لا تعبدوا إلا الله .
ثم حكى الله تعالى عن أولئك الكفار أنهم قالوا : ( لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ) يعني أنهم كذبوا أولئك الرسل ، وقالوا : الدليل على كونهم كاذبين أنه تعالى لو شاء إرسال الرسالة إلى البشر لجعل رسله من زمرة الملائكة ؛ لأن . إرسال الملائكة إلى الخلق أفضى إلى المقصود من البعثة والرسالة
ولما ذكروا هذه الشبهة قالوا ( فإنا بما أرسلتم به كافرون ) معناه : فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة ، فأنتم لستم برسل ، وإذا لم تكونوا من الرسل لم يلزمنا قبول قولكم ، وهو المراد من قوله ( فإنا بما أرسلتم به كافرون ) .
واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهات في سورة الأنعام ، وقوله : ( أرسلتم به ) ليس بإقرار منهم بكون أولئك الأنبياء رسلا ، وإنما ذكروه حكاية لكلام الرسل أو على سبيل الاستهزاء ، كما قال فرعون : ( إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ) [ الشعراء : 27 ] .
أبا جهل قال في ملأ من قريش : التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والسحر والكهانة فكلمه ، ثم أتانا ببيان عن أمره ، فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الشعر والسحر والكهانة وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي ، فأتاه فقال : يا محمد أنت خير أم هاشم ؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ أنت خير أم عبد الله ؟ لم تشتم آلهتنا وتضللنا ؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا ، وإن تكن بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن ، أي بنات من شئت من قريش ، وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغني به ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت ، فلما فرغ قال : بسم الله الرحمن الرحيم ( حم تنزيل من الرحمن الرحيم ) إلى قوله ( صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش ، فلما احتبس عنهم قالوا ، لا نرى عتبة إلا قد صبأ ، فانطلقوا إليه وقالوا : يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت ؟ فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا ، ثم قال : والله لقد كلمته فأجابني بشيء ما هو بشعر ولا سحر ولا كهانة ، ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته بالرحم ، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن [ ص: 97 ] ينزل بكم العذاب . روي أن
واعلم أنه تعالى لما بين كفر قوم عاد وثمود على الإجمال بين خاصية كل واحدة من هاتين الطائفتين ، فقال : ( فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق ) وهذا الاستكبار فيه وجهان :
الأول : إظهار النخوة والكبر ، وعدم الالتفات إلى الغير .
والثاني : الاستعلاء على الغير واستخدامهم ، ثم ذكر تعالى سبب ذلك الاستكبار وهو أنهم قالوا : ( من أشد منا قوة ) وكانوا مخصوصين بكبر الأجسام وشدة القوة ، ثم إنه تعالى ذكر ما يدل على أنه لا يجوز لهم أن يغتروا بشدة قوتهم ، فقال : ( أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ) يعني أنهم وإن كانوا أقوى من غيرهم ، فالله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ، فإن كانت الزيادة في القوة توجب كون الناقص في طاعة الكامل ، فهذه المعاملة توجب عليهم كونهم منقادين لله تعالى ، خاضعين لأوامره ونواهيه .
واحتج أصحابنا بهذه الآية على ، فقالوا : القوة لله تعالى ويتأكد هذا بقوله ( إثبات القدرة لله الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ) يدل على إثبات القوة لله تعالى ويتأكد هذا بقوله ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) [ الذاريات : 58 ] فإن قيل : صيغة أفعل التفضيل إنما تجري بين شيئين لأحدهما مع الآخر نسبة ، لكن قدرة العبد متناهية وقدرة الله لا نهاية لها ، والمتناهي لا نسبة له إلى غير المتناهي ، فما معنى قوله : إن الله أشد منهم قوة ؟ قلنا هذا ورد على قانون قولنا : الله أكبر .
ثم قال : ( وكانوا بآياتنا يجحدون ) والمعنى أنهم كانوا يعرفون أنها حق ولكنهم جحدوا كما يجحد المودع الوديعة .
واعلم أن نظم الكلام أن يقال : أما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وكانوا بآياتنا يجحدون ، وقوله : ( وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ) اعتراض وقع في البين لتقرير السبب الداعي لهم إلى الاستكبار .
واعلم أنا ذكرنا أن مجامع الخصال الحميدة ( الإحسان إلى الخلق والتعظيم للخالق ) ، فقوله : ( فاستكبروا في الأرض بغير الحق ) مضاد للإحسان إلى الخلق وقوله : ( وكانوا بآياتنا يجحدون ) مضاد للتعظيم للخالق ، وإذا كان الأمر كذلك فهم قد بلغوا في الصفات المذمومة الموجبة للهلاك والإبطال إلى الغاية القصوى ، فلهذا المعنى سلط الله العذاب عليهم ، فقال : ( فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا ) وفي الصرصر قولان :
أحدهما : أنها العاصفة التي تصرصر أي تصوت في هبوبها ، وفي علة هذه التسمية وجوه قيل إن الرياح عند اشتداد هبوبها يسمع منها صوت يشبه صوت الصرصر فسميت هذه الرياح بهذا الاسم ، وقيل : هو من صرير الباب ، وقيل : من الصرة والصيحة ، ومنه قوله تعالى : ( فأقبلت امرأته في صرة ) [ الذاريات : 29 ] .
والقول الثاني : أنها الباردة التي تحرق ببردها كما تحرق النار بحرها ، وأصلها من الصر وهو البرد قال تعالى : ( كمثل ريح فيها صر ) [ آل عمران : 117 ] وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " : العاصف والصرصر والعقيم والسموم ، وأربع منها رحمة : الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات " الرياح ثمان أربع منها عذاب وعن أن الله تعالى ما أرسل على عباده من الريح إلا قدر خاتمي ، والمقصود أنه مع قلته أهلك الكل وذلك يدل على كمال قدرته . ابن عباس