( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم [ ص: 134 ] الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز )
قوله تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز )
اعلم أنه تعالى لما عظم وحيه إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله ( كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ) [الشورى : 3] ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك ، فقال : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ) والمعنى : محمد من الدين ما وصى به نوحا ومحمدا شرع لكم يا أصحاب وإبراهيم وموسى وعيسى ، هذا هو المقصود من لفظ الآية ، وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة ، إلا أنه بقي في لفظ الآية إشكالات .
أحدها : أنه قال في أول الآية ( ما وصى به نوحا ) ، وفي آخرها ( وما وصينا به إبراهيم ) ، وفي الوسط ( والذي أوحينا إليك ) فما الفائدة في هذا التفاوت ؟
وثانيها : أنه ذكر نوحا - عليه السلام - على سبيل الغيبة فقال : ( ما وصى به نوحا ) والقسمين الباقيين على سبيل التكلم ، فقال : ( والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم )
وثالثها : أنه يصير تقدير الآية : شرع الله لكم من الدين الذي أوحينا إليك ، فقوله ( شرع لكم ) خطاب الغيبة ، وقوله ( والذي أوحينا إليك ) خطاب الحضور ، فهذا يقتضي ، وهو مشكل ، فهذه المضايق يجب البحث عنها ، والقوم ما داروا حولها ، وبالجملة فالمقصود من الآية أنه يقال شرع لكم من الدين دينا تطابقت الأنبياء على صحته ، وأقول : يجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئا مغايرا للتكاليف والأحكام ، وذلك لأنها مختلفة متفاوتة ، قال تعالى : ( الجمع بين خطاب الغيبة وخطاب الحضور في الكلام الواحد بالاعتبار الواحد لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) [المائدة : 48] [ ص: 135 ] فيجب أن يكون المراد منه الأمور التي لا تختلف باختلاف الشرائع ، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والإيمان يوجب الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والسعي في مكارم الأخلاق والاحتراز عن رذائل الأحوال ، ويجوز عندي أن يكون المراد من قوله ( ولا تتفرقوا ) أي لا تتفرقوا بالآلهة الكثيرة ، كما قال يوسف عليه السلام : ( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) [يوسف : 39] وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [الأنبياء : 25] واحتج بعضهم بقوله ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ) على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر كان مبعوثا بشريعة نوح عليه السلام ، والجواب : ما ذكرناه أنه عطف عليه سائر الأنبياء ، وذلك يدل على أن المراد هو الأخذ بالشريعة المتفق عليها بين الكل ، ومحل ( أن أقيموا الدين ) إما نصب بدل من مفعول ( شرع ) والمعطوفين عليه ، وإما رفع على الاستئناف ؛ كأنه قيل : ما ذاك المشروع ؟ فقيل : هو إقامة الدين .
( كبر على المشركين ) عظم عليهم وشق عليهم ( ما تدعوهم إليه ) من إقامة دين الله تعالى على سبيل الاتفاق والإجماع ، بدليل أن الكفار قالوا ( أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ) [ص : 5] وههنا مسائل :
المسألة الأولى : احتج نفاة القياس بهذه الآية ، قالوا : إنه تعالى أخبر أن أكابر الأنبياء أطبقوا على أنه يجب بحيث لا يفضي إلى الاختلاف والتنازع ، والله تعالى ذكر في معرض المنة على عباده أنه أرشدهم إلى الدين الخالي عن التفرق والمخالفة ، ومعلوم أن إقامة الدين يفضي إلى أعظم أنواع التفرق والمنازعة ، فإن الحس شاهد بأن هؤلاء الذين بنوا دينهم على الأخذ بالقياس تفرقوا تفرقا لا رجاء في حصول الاتفاق بينهم إلى آخر القيامة ، فوجب أن يكون ذلك محرما ممنوعا عنه . فتح باب القياس
المسألة الثانية : هذه الآية تدل على أن هذه : الشرائع قسمان
منها ما يمتنع دخول النسخ والتغيير فيه ، بل يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان ، كالقول بحسن الصدق والعدل والإحسان ، والقول بقبح الكذب والظلم والإيذاء .
ومنها ما يختلف باختلاف الشرائع والأديان ، ودلت هذه الآية على أن سعي الشرع في تقرير النوع الأول أقوى من سعيه في تقرير النوع الثاني ؛ لأن المواظبة على القسم الأول مهمة في اكتساب الأحوال المفيدة لحصول السعادة في الدار الآخرة .
المسألة الثالثة : قوله تعالى : ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) مشعر بأن ، وبيان منفعته من وجوه : حصول الموافقة أمر مطلوب في الشرع والعقل
الأول : أن للنفوس تأثيرات ، وإذا تطابقت النفوس وتوافقت على واحد قوي التأثير .
الثاني : أنها إذا توافقت صار كل واحد منها معينا للآخر في ذلك المقصود المعين ، وكثرة الأعوان توجب حصول المقصود ، أما إذا تخالفت تنازعت وتجادلت فضعفت ، فلا يحصل المقصود .
الثالث : أن حصول التنازع ضد مصلحة العالم ؛ لأن ذلك يفضي إلى الهرج والمرج والقتل والنهب ، فلهذا السبب أمر الله تعالى في هذه الآية بإقامة الدين على وجه لا يفضي إلى التفرق ، وقال في آية أخرى : ( ولا تنازعوا فتفشلوا ) [الأنفال : 46] .
ثم قال تعالى : ( الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) وفيه وجهان :
الأول : أنه تعالى لما أرشد أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى التمسك بالدين المتفق عليه بين أنه تعالى إنما أرشدهم إلى هذا الخير ؛ لأنه اجتباهم واصطفاهم وخصهم بمزيد الرحمة والكرامة .
الثاني : أنه إنما كبر عليهم هذا الدعاء من الرسل لما فيه من [ ص: 136 ] الانقياد لهم تكبرا وأنفة ، فبين تعالى أنه يخص من يشاء بالرسالة ، ويلزم الانقياد لهم ، ولا يعتبر الحسب والنسب والغنى ، بل الكل سواء في أنه يلزمهم اتباع الرسل الذين اجتباهم الله تعالى ، واشتقاق لفظ الاجتباء يدل على الضم والجمع ، فمنه جبى الخراج واجتباه وجبى الماء في الحوض ، فقوله ( الله يجتبي إليه ) أي يضمه إليه ويقربه منه تقريب الإكرام والرحمة ، وقوله ( من يشاء ) كقوله تعالى : ( يعذب من يشاء ويرحم من يشاء ) [العنكبوت : 21] .