( أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون )
قوله تعالى ( أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون )
اعلم أنه تعالى لما وصفهم في الآية المتقدمة بالعشى وصفهم في هذه الآية بالصمم والعمى ، وما أحسن هذا الترتيب ، وذلك لأن الإنسان في أول اشتغاله بطلب الدنيا يكون كمن حصل بعينه رمد ضعيف ، ثم كلما كان اشتغاله بتلك الأعمال أكثر كان ميله إلى الجسمانيات أشد ، وإعراضه عن الروحانيات أكمل ، لما ثبت في علوم العقل أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات الراسخة ، فينتقل الإنسان من الرمد إلى أن يصير أعشى ، فإذا واظب على تلك الحالة أياما أخرى انتقل من كونه أعشى إلى كونه أعمى ، فهذا ترتيب حسن موافق لما ثبت بالبراهين اليقينية ، روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجتهد في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا تصميما على الكفر وتماديا في الغي ، فقال تعالى : ( أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ) يعني أنهم بلغوا في النفرة عنك وعن دينك إلى حيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالأصم ، وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالأعمى ، ثم بين [ ص: 185 ] تعالى أن صممهم وعماهم إنما كان بسبب كونهم في ضلال مبين .
ولما بين تعالى أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم قال : ( فإما نذهبن بك ) يريد حصول الموت قبل نزول النقمة بهم ( فإنا منهم منتقمون ) بعدك ، أو نرينك في حياتك ما وعدناهم من الذل والقتل ، فإنا مقتدرون على ذلك ، واعلم أن هذا الكلام يفيد كمال التسلية للرسول - عليه السلام - لأنه تعالى بين أنهم لا تؤثر فيهم دعوته ، واليأس إحدى الراحتين ، ثم بين أنه لا بد وأن ينتقم لأجله منهم إما حال حياته أو بعد وفاته ، وذلك أيضا يوجب التسلية ، فبعد هذا أمره أن يستمسك بما أمره تعالى ، فقال : ( فاستمسك بالذي أوحي إليك ) بأن تعتقد أنه حق ، وبأن تعمل بموجبه فإنه الصراط المستقيم الذي لا يميل عنه إلا ضال في الدين .
ولما بين تأثير التمسك بهذا الدين في منافع الدين بين أيضا تأثيره في منافع الدنيا ، فقال : ( وإنه لذكر لك ولقومك ) أي : إنه يوجب الشرف العظيم لك ولقومك حيث يقال : إن هذا الكتاب العظيم أنزله الله على رجل من قوم هؤلاء ، واعلم أن هذه الآية تدل على أن ، ولو لم يكن الذكر الجميل أمرا مرغوبا فيه لما من الله به على الإنسان لا بد وأن يكون عظيم الرغبة في الثناء الحسن والذكر الجميل محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : ( وإنه لذكر لك ولقومك ) ولما طلبه إبراهيم - عليه السلام - حيث قال : ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) [الشعراء : 84] ولأن الذكر الجميل قائم مقام الحياة الشريفة ، بل الذكر أفضل من الحياة ؛ لأن أثر الحياة لا يحصل إلا في مسكن ذلك الحي ، أما أثر الذكر الجميل فإنه يحصل في كل مكان وفي كل زمان .
ثم قال تعالى : ( وسوف تسألون ) وفيه وجوه :
الأول : قال الكلبي : تسألون هل أديتم شكر إنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل .
الثاني : قال مقاتل : المراد أن من كذب به يسأل لم كذبه ، فيسأل سؤال توبيخ .
الثالث : تسألون هل عملتم بما دل عليه من التكاليف .
واعلم أن محمد - صلى الله عليه وسلم - ولبغضهم له أنه كان ينكر عبادة الأصنام ، فبين تعالى أن إنكار عبادة الأصنام ليس من خواص دين السبب الأقوى في إنكار الكفار لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، بل كل الأنبياء والرسل كانوا مطبقين على إنكاره فقال : ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) وفيه أقوال :
الأول : معناه واسأل مؤمني أهل الكتاب ، أي : أهل التوراة والإنجيل ، فإنهم سيخبرونك أنه لم يرد في دين أحد من الأنبياء عبادة الأصنام ، وإذا كان هذا الأمر متفقا عليه بين كل الأنبياء والرسل وجب أن لا يجعلوه سببا لبغض محمد صلى الله عليه وسلم .
والقول الثاني : قال عطاء عن : " ابن عباس لما أسري به - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الأقصى بعث الله له آدم وجميع المرسلين من ولده ، فأذن جبريل ثم أقام ، فقال : يا محمد ، تقدم فصل بهم ، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة ، قال له جبريل عليه السلام : " واسأل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا ... " الآية ، فقال صلى الله عليه وسلم : لا أسأل لأني لست شاكا فيه " .
والقول الثالث : أن ذكر السؤال في موضع لا يمكن السؤال فيه يكون المراد منه النظر والاستدلال ، كقول من قال : سل الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك ، وجنى ثمارك ، فإنها إن لم تجبك جوابا أجابتك اعتبارا ، فههنا سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأنبياء الذين كانوا قبله - ممتنع ، فكان المراد منه : انظر في هذه المسألة بعقلك وتدبر فيها بفهمك ، والله أعلم .