( إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى    ) 
ثم قال تعالى : ( إن ربك واسع المغفرة    ) وذلك على قولنا : ( الذين يجتنبون    ) ابتداء الكلام في غاية الظهور ؛ لأن المحسن مجزى وذنبه مغفور  ، ومجتنب الكبائر كذلك ذنبه الصغير مغفور ، والمقدم على الكبائر إذا تاب  مغفور الذنب ، فلم يبق ممن لم تصل إليهم مغفرة إلا الذين أساءوا وأصروا عليها ، فالمغفرة واسعة وفيه معنى آخر لطيف ، وهو أنه تعالى لما أخرج المسيء عن المغفرة بين أن ذلك ليس لضيق فيها ، بل ذلك بمشيئة الله تعالى ، ولو أراد الله مغفرة كل من أحسن وأساء لفعل ، وما كان يضيق عنهم مغفرته ، والمغفرة من الستر ، وهو لا يكون إلا على قبيح ، وكل من خلقه الله إذا نظرت في فعله ونسبته إلى نعم الله تجده مقصرا مسيئا ، فإن من جازى المنعم بنعم لا تحصى مع استغنائه الظاهر وعظمته الواضحة بدرهم أو أقل منه يحتاج إلى ستر ما فعله . 
ثم قال تعالى : ( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى    ) وفي المناسبة وجوه : 
أحدها : هو تقرير لما مر من قوله : ( هو أعلم بمن ضل    ) كأن العامل من الكفار يقول : نحن نعمل أمورا في جوف الليل المظلم ، وفي البيت الخالي ، فكيف يعلمه الله تعالى ؟ فقال : ليس عملكم أخفى من أحوالكم وأنتم أجنة في بطون أمهاتكم ، والله عالم بتلك الأحوال    . 
ثانيها : هو إشارة إلى الضال والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله ، فإن الحق علم أحوالهم وهم في بطون الأمهات ، فكتب على البعض أنه ضال ، والبعض أنه مهتد . 
ثالثها : تأكيد وبيان للجزاء ، وذلك لأنه لما قال : ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا    ) قال الكافرون : هذا الجزاء لا يتحقق إلا بالحشر ، وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيد من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط غير ممكن ، فقال تعالى : ( هو أعلم بكم إذ أنشأكم    ) فيجمعها بقدرته على وفق علمه كما أنشأكم ، وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : العامل في : " إذ " يحتمل أن يكون ما يدل عليه : " أعلم " أي علمكم وقت الإنشاء ، ويحتمل أن يكون اذكروا فيكون تقريرا لكونه عالما ، ويكون تقديره : ( هو أعلم بكم    ) وقد تم الكلام ، ثم يقول : إن كنتم في شك من علمه بكم فاذكروا حال إنشائكم من التراب . 
المسألة الثانية : ذكرنا مرارا أن قوله : ( من الأرض    ) من الناس من قال : آدم  فإنه من تراب ، وقررنا أن كل أحد أصله من التراب ، فإنه يصير غذاء ، ثم يصير نطفة . 
المسألة الثالثة : لو قال قائل : لا بد من صرف ( إذ أنشأكم من الأرض    ) إلى آدم  ؛ لأن ( وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم    )   [ ص: 10 ] عائد إلى غيره ، فإنه لم يكن جنينا ، ولو قلت بأن قوله تعالى : ( إذ أنشأكم    ) عائد إلى جميع الناس ، فينبغي أن يكون جميع الناس أجنة في بطون الأمهات ، وهو قول الفلاسفة ؟ نقول ليس كذلك ، لأنا نقول : الخطاب مع الموجودين حالة الخطاب ، وقوله تعالى : ( هو أعلم بكم    ) خطاب مع كل من بعد الإنزال على قول ، ومع من حضر وقت الإنزال على قول ، ولا شك أن كل هؤلاء من الأرض وهم كانوا أجنة . 
المسألة الرابعة : الأجنة هم الذين في بطون الأمهات  ، وبعد الخروج لا يسمى إلا ولدا أو سقطا ، فما فائدة قوله تعالى : ( في بطون أمهاتكم    ) ؟ نقول : التنبيه على كمال العلم والقدرة  ، فإن بطن الأم في غاية الظلمة ، ومن علم بحال الجنين فيها لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد . 
المسألة الخامسة : لقائل أن يقول : إذا قلنا إن قوله : ( هو أعلم بكم    ) تقرير لكونه عالما بمن ضل ، فقوله تعالى : ( فلا تزكوا أنفسكم    ) تعلقه به ظاهر ، وأما إن قلنا : إنه تأكيد وبيان للجزاء ، فإنه يعلم الأجزاء فيعيدها إلى أبدان أشخاصها ، فكيف يتعلق به ( فلا تزكوا أنفسكم    ) ؟ نقول : معناه حينئذ فلا تبرئوا أنفسكم من العذاب ، ولا تقولوا تفرقت الأجزاء فلا يقع العذاب ؛ لأن العالم بكم عند الإنشاء عالم بكم عند الإعادة ، وعلى هذا قوله : ( أعلم بمن اتقى    ) أي يعلم أجزاءه فيعيدها إليه ، ويثيبه بما أقدم عليه . 
المسألة السادسة : الخطاب مع من ؟ فيه ثلاثة احتمالات ؛ الأول : مع الكفار ، وهذا على قولنا إنهم قالوا : كيف يعلمه الله ، فرد عليهم قولهم . الثاني : كل من كان زمان الخطاب وبعده من المؤمنين والكفار . الثالث هو مع المؤمنين ، وتقريره : هو أن الله تعالى لما قال : ( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا    ) [ النجم : 29 ] قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : قد علم كونك ومن معك على الحق ، وكون المشركين على الباطل ، فأعرض عنهم . ولا تقولوا : نحن على الحق وأنتم على الضلال ؛ لأنهم يقابلونكم بمثل ذلك ، وفوض الأمر إلى الله تعالى ، فهو أعلم بمن اتقى ومن طغى ، وعلى هذا فقول من قال : ( فأعرض    ) منسوخ أظهر ، وهو كقوله تعالى : ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين    ) [ سبأ : 24 ] والله أعلم بجملة الأمور ، ويحتمل أن يقال : على هذا الوجه الثالث إنه إرشاد للمؤمنين ، فخاطبهم الله وقال : هو أعلم بكم أيها المؤمنون ، علم ما لكم من أول خلقكم إلى آخر يومكم ، فلا تزكوا أنفسكم رياء وخيلاء  ، ولا تقولوا لآخر : أنا خير منك وأنا أزكى منك وأتقى ، فإن الأمر عند الله ، ووجه آخر وهو إشارة إلى وجوب الخوف من العاقبة ، أي لا تقطعوا بخلاصكم أيها المؤمنون ، فإن الله يعلم عاقبة من يكون على التقى  ، وهذا يؤيد قول من يقول : أنا مؤمن إن شاء الله للصرف إلى العاقبة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					