ثم قال تعالى : ( فكيف كان عذابي ونذر ) وقد تقدم بيانه وتفسيره غير أن هذه الآية ذكرها في ثلاثة مواضع ذكرها في حكاية نوح بعد بيان العذاب ، وذكرها هاهنا قبل بيان العذاب ، وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه ، فحيث ذكر قبل بيان العذاب ذكرها للبيان كما تقول : ضربت فلانا أي ضرب وأيما ضرب ، وتقول : ضربته وكيف ضربته أي قويا ، وفي حكاية عاد ذكرها مرتين للبيان والاستفهام ، وقد ذكرنا السبب فيه ، ففي حكاية نوح ذكر " الذي " للتعظيم وفي حكاية ثمود ذكر " الذي " للبيان ؛ لأن عذاب قوم نوح كان بأمر عظيم عام ، وهو الطوفان الذي عم العالم ولا كذلك هود فإنه كان مختصا بهم . [ ص: 50 ] عذاب قوم
ثم قال تعالى : ( إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ) وفيه مسائل : سمعوا صيحة فماتوا
المسألة الأولى : كان في قوله : ( فكانوا ) من أي الأقسام ؟ نقول : قال النحاة : تجيء تارة بمعنى صار وتمسكوا بقول القائل :
بتيماء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
بمعنى صارت فقال بعض المفسرين : في هذا الموضع إنها بمعنى صار ، والتحقيق أن " كان " لا تخالف غيرها من الأفعال الماضية اللازمة التي لا تتعدى ، والذي يقال : إن كانت تامة وناقصة وزائدة وبمعنى صار فليس ذلك يوجب اختلاف أحوالها اختلافا يفارق غيرها من الأفعال ؛ وذلك لأن كان بمعنى وجد أو حصل أو تحقق غير أن الذي وجد تارة يكون حقيقة الشيء وأخرى صفة من صفاته ، فإذا قلت : كانت الكائنة وكن فيكون جعلت الوجود والحصول للشيء في نفسه فكأنك قلت : وجدت الحقيقة الكائنة ، وكن أي احصل فيوجد في نفسه ، وإذا قلت : كان زيد عالما أي : وجد علم زيد ، غير أنا نقول في وجد زيد عالما إن عالما حال ، وفي كان زيد عالما نقول : إنه خبر كقولنا حصل زيد عالما غير أن قولنا : وجد زيد عالما ربما يفهم منه أن الوجود والحصول لزيد في تلك الحال كما تقول قام زيد منتحيا حيث يكون القيام لزيد في تلك الحال ، وقولنا : كان زيد عالما ليس معناه كان زيد وفي تلك الحال هو عالم ، لكن هذا لا يوجب أن " كان " على خلاف غيره من الأفعال اللازمة التي لها بالحال تعلق شديد ؛ لأن من يفهم من قولنا : حصل زيد اليوم على أحسن حال ما نفهمه من قولنا : خرج زيد اليوم في أحسن زي لا يمنعه مانع من أن يفهم من قولنا : كان زيد على أحسن حال مثل ما فهم هناك ، إذا عرفت هذا فنقول : الفعل الماضي يطلق تارة على ما يوجد في الزمان المتصل بالحاضر ، كقولنا : قام زيد في صباه ، ويطلق تارة على ما يوجد في الزمان الحاضر كقولنا : قام زيد فقم وقم فإن زيدا قام ، وكذلك القول في " كان " ربما يقال : كان زيد قائما عام كذا ، وربما يقال : كان زيد قائما الآن كما في قام زيد ، فقوله تعالى : ( فكانوا ) فيه استعمال الماضي فيما اتصل بالحال ، فهو كقولك أرسل عليهم صيحة فماتوا أي متصلا بتلك الحال ، نعم لو استعمل في هذا الموضع صار يجوز لكن " كان " و" صار " كل واحد بمعنى في نفسه وليس وإنما يلزم حمل " كان " على " صار " إذا لم يمكن أن يقال : " هو كذا " كما في البيت حيث لا يمكن أن يقال : البيوض فراخ ، وأما هنا يمكن أن يقال هم كهشيم ، ولولا الكاف لأمكن أن يقال : يجب حمل كان على صار إذا كان المراد أنهم انقلبوا هشيما كما يقلب الممسوخ وليس المراد ذلك .
المسألة الثانية : ؟ نقول هو المهشوم أي : المكسور ، وسمي هاشم هاشما لهشمه الثريد في الجفان غير أن الهشيم استعمل كثيرا في الحطب المتكسر اليابس ، فقال المفسرون : كانوا كالحشيش الذي يخرج من الحظائر بعد البلا بتفتت ، واستدلوا عليه بقوله تعالى : ( ما الهشيم هشيما تذروه الرياح ) [ الكهف : 45 ] وهو من باب إقامة الصفة مقام الموصوف ، كما يقال : رأيت جريحا ومثله السعير .
المسألة الثالثة : لماذا شبههم به ؟ قلنا : يحتمل أن يكون التشبيه بكونهم يابسين كالحشيش بين الموتى الذين ماتوا من زمان ، وكأنه يقول : سمعوا الصيحة فكانوا كأنهم ماتوا من أيام ، ويحتمل أن يكون لأنهم انضموا بعضهم إلى بعض كما ينضم الرفقاء عند الخوف داخلين بعضهم في بعض فاجتمعوا بعض فوق بعض [ ص: 51 ] كحطب الحاطب الذي يصفه شيئا فوق شيء منتظرا حضور من يشتري منه شيئا ، فإن الحطاب الذي عنده الحطب الكثير يجعل منه كالحظيرة ، ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم في الجحيم ، أي كانوا كالحطب اليابس الذي للوقيد فهو محقق لقوله تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) [ الأنبياء : 98 ] وقوله تعالى : ( فكانوا لجهنم حطبا ) [ الجن : 15 ] وقوله : ( أغرقوا فأدخلوا نارا ) [ نوح : 25 ] كذلك ماتوا فصاروا كالحطب الذي لا يكون إلا للإحراق ؛ لأن الهشيم لا يصلح للبناء .