( رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
ثم قال تعالى :
( رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان ) وفيه وجوه : أولها : مشرق الشمس والقمر ومغربهما ، والبيان حينئذ في حكم إعادة ما سبق مع زيادة ، لأنه تعالى لما قال : ( الشمس والقمر بحسبان ) دل على أن لهما مشرقين ومغربين ، ولما ذكر : ( خلق الإنسان علمه البيان ) دل على أنه مخلوق من شيء فبين أنه الصلصال . الثاني : مشرق الشتاء ومشرق الصيف . فإن قيل : نقول : غاية انحطاط الشمس في الشتاء وغاية ارتفاعها في الصيف ، والإشارة إلى الطرفين تتناول ما بينهما ، فهو كما يقول القائل في وصف ملك عظيم له المشرق والمغرب ، ويفهم أن له ما بينهما أيضا . الثالث : التثنية إشارة إلى النوعين الحاصرين كما بينا أن كل شيء فإنه ينحصر في قسمين ، فكأنه قال : رب مشرق الشمس ومشرق غيرها ، فهما مشرقان فتناول الكل ، أو يقال : مشرق الشمس والقمر وما يفرض إليهما العاقل من مشرق غيرهما فهو تثنية في معنى الجمع . ما الحكمة في اختصاصهما مع أن كل يوم من ستة أشهر للشمس مشرق ومغرب يخالف بعضها البعض ؟
ثم قال تعالى : ( مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق الآية بما قبلها فنقول : لما ذكر تعالى المشرق والمغرب وهما حركتان في الفلك ناسب ذلك ذكر البحرين لأن الشمس والقمر يجريان في الفلك كما يجري الإنسان في البحر قال تعالى : ( وكل في فلك يسبحون ) [ يس : 40 ] فذكر البحرين عقيب المشرقين والمغربين ، ولأن المشرقين والمغربين فيهما إشارة إلى البحر لانحصار البر والبحر بين المشرق والمغرب ، لكن البر كان مذكورا بقوله تعالى : ( والأرض وضعها ) [ الرحمن : 10 ] فذكر ههنا ما لم يكن مذكورا .
المسألة الثانية : " مرج " ، إذا كان متعديا كان بمعنى خلط أو ما يقرب منه ، فكيف قال تعالى : ( من مارج من نار ) ولم يقل : من ممروج ؟ نقول : مرج متعد ومرج بكسر الراء لازم ، فالمارج والمريج من مرج يمرج كفرح يفرح ، والأصل في فعل أن يكون غريزيا ، والأصل في الغريزي أن يكون لازما ، ويثبت له حكم الغريزي ، وكذلك فعل في كثير من المواضع .
المسألة الثالثة : في البحرين وجوه : أحدها : بحر الأرض .
ثانيها : البحر الحلو والبحر المالح ، كما قال تعالى : ( وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ) [ فاطر : 12 ] وهو أصح وأظهر من [ ص: 89 ] الأول . ثالثها : ما ذكر في المشرقين وفي قوله : ( تكذبان ) أنه إشارة إلى النوعين الحاصرين فدخل فيه بحر السماء وبحر الأرض والبحر العذب والبحر المالح ، رابعها : أنه تعالى خلق في الأرض بحارا تحيط بها الأرض وببعض جزائرها يحيط الماء ، وخلق بحرا محيطا بالأرض وعليه الأرض وأحاط به الهواء ، كما قال به أصحاب علم الهيئة وورد به أخبار مشهورة ، وهذه البحار التي في الأرض لها اتصال بالبحر المحيط ، ثم إنهما لا يبغيان على الأرض ولا يغطيانها بفضل الله تعالى لتكون الأرض بارزة يتخذها الإنسان مكانا ، وعند النظر إلى أمر الأرض يحار الطبيعي ويتلجلج في الكلام ، فإن عندهم موضع الأرض بطبعه أن يكون في المركز ، ويكون الماء محيطا بجميع جوانبه ، فإذا قيل لهم : فكيف ظهرت الأرض من الماء ولم ترسب ؟ يقولون : لانجذاب البحار إلى بعض جوانبها ، فإن قيل : لماذا انجذب ؟ فالذي يكون عنده قليل من العقل يرجع إلى الحق ويجعله بإرادة الله تعالى ومشيئته ، والذي يكون عديم العقل يجعل سببه من الكواكب وأوضاعها واختلاف مقابلاتها ، وينقطع في كل مقام مرة بعد أخرى ، وفي آخر الأمر إذا قيل له : أوضاع الكواكب لم اختلفت على الوجه الذي أوجب البرد في بعض الأرض دون بعض آخر صار كما قال تعالى : ( فبهت الذي كفر ) [ البقرة : 258 ] ويرجع إلى الحق إن هداه الله تعالى .
المسألة الرابعة : إذا كان المرج بمعنى الخلط فما الفائدة في قوله تعالى : ( يلتقيان ) ؟ نقول : قوله تعالى : ( مرج البحرين ) أي أرسل بعضهما في بعض وهما عند الإرسال بحيث يلتقيان أو من شأنهما الاختلاط والالتقاء ، ولكن الله تعالى منعهما عما في طبعهما ، وعلى هذا يلتقيان حال من البحرين ، ويحتمل أن يقال : من محذوف تقديرهما تركهما ، فهما يلتقيان إلى الآن ولا يمتزجان ، وعلى الأول : فالفائدة إظهار القدرة في النفع ، فإنه إذا أرسل الماءين بعضهما على بعض وفي طبعهما بخلق الله وعادته السيلان والالتقاء ويمنعهما البرزخ الذي هو قدرة الله أو بقدرة الله ، يكون أدل على القدرة مما إذا لم يكونا على حال يلتقيان ، وفيه إشارة إلى مسألة حكمية وهي : أن الحكماء المحققين ذلك بإجراء الله تعالى ذلك عليه وعند من يدعي الحكمة ولم يوفقه الله من الطبيعيين يقول ذلك له بطبعه ، فقوله : ( يلتقيان ) أي من شأنهما أن يكون مكانهما واحدا ، ثم إنهما بقيا في مكان متميزين فذلك برهان القدرة والاختيار .
وعلى الوجه الثاني : الفائدة في بيان القدرة أيضا على المنع من الاختلاط ، فإن الماءين إذا تلاقيا لا يمتزجان في الحال بل يبقيان زمانا يسيرا كالماء المسخن إذا غمس إناء مملوء منه في ماء بارد إن لم يمكث فيه زمانا لا يمتزج بالبارد ، لكن إذا دام مجاورتهما فلا بد من الامتزاج فقال تعالى : ( مرج البحرين ) خلاهما ذهابا إلى أن يلتقيا ولا يمتزجا فذلك بقدرة الله تعالى .
ثم قال تعالى : ( بينهما برزخ لا يبغيان ) إشارة إلى ما ذكرنا من منعه إياهما من الجريان على عادتهما ، والبرزخ الحاجز وهو في البعض وبقدرة الله في الباقي ، فإن البحرين قد يكون بينهما حاجز أرضي محسوس وقد لا يكون ، وقوله : ( قدرة الله تعالى لا يبغيان ) فيه وجهان : أحدهما : من البغي أي لا يظلم أحدهما على الآخر بخلاف قول الطبيعي حيث يقول : الماءان كلاهما جزء واحد ، فقال : هما لا يبغيان ذلك . وثانيهما : أن يقال : لا يبغيان من البغي بمعنى الطلب أي لا يطلبان شيئا ، وعلى هذا ففيه وجه آخر ، وهو أن يقال : إن يبغيان لا مفعول له معين ، بل هو بيان أنهما لا يبغيان في ذاتهما ولا يطلبان شيئا أصلا ، بخلاف ما يقول الطبيعي : إنه يطلب الحركة والسكون في موضع عن موضع .