( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام فبأي آلاء ربكما تكذبان )
ثم قال تعالى : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام فبأي آلاء ربكما تكذبان ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الوجه يطلق على الذات والمجسم يحمل الوجه على العضو وهو خلاف العقل والنقل أعني القرآن ؛ لأن قوله تعالى : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] يدل على أنه لا يبقى إلا ، فعلى القول الحق لا إشكال فيه لأن المعنى لا يبقى غير حقيقة الله أو غير ذات الله شيء وهو كذلك ، وعلى قول المجسم يلزم أن لا تبقى يده التي أثبتها ورجله التي قال بها ، لا يقال : فعلى قولكم أيضا يلزم أن لا يبقى علم الله ولا قدرة الله ، لأن الوجه جعلتموه ذاتا ، والذات غير الصفات فإذا قلت : كل شيء هالك إلا حقيقة الله ، خرجت الصفات عنها ، فيكون قولكم نفيا للصفات . نقول : الجواب عنه بالعقل والنقل ، أما النقل فذلك أمر يذكر في غير هذا الموضع ، وأما العقل فهو أن قول القائل : لم يبق لفلان إلا ثوب يتناول الثوب وما قام به من اللون والطول والعرض ، وإذا قال : لم يبق إلا كمه لا يدل على بقاء جيبه وذيله ، فكذلك قولنا : يبقى ذات الله تعالى يتناول صفاته ، وإذا قلتم : لا يبقى غير وجهه بمعنى العضو يلزمه أن لا تبقى يده . وجه الله تعالى
المسألة الثانية : فما السبب في حسن إطلاق لفظ الوجه على الذات ؟ نقول : إنه مأخوذ من عرف الناس ، [ ص: 94 ] فإن الوجه يستعمل في العرف لحقيقة الإنسان ، ألا ترى أن الإنسان إذا رأى وجه غيره يقول : رأيته ، وإذا رأى غير الوجه من اليد والرجل مثلا لا يقول رأيته ، وذلك لأن اطلاع الإنسان على حقائق الأشياء في أكثر الأمر يحصل بالحس ، فإن الإنسان إذا رأى شيئا علم منه ما لم يكن يعلم حال غيبته ، لأن الحس لا يتعلق بجميع المرئي وإنما يتعلق ببعضه ، ثم إن الحس يدرك والحدس يحكم ، فإذا رأى شيئا بحسه يحكم عليه بأمر بحدسه ، لكن الإنسان اجتمع في وجهه أعضاء كثيرة كل واحد يدل على أمر ، فإذا رأى الإنسان وجه الإنسان حكم عليه بأحكام ما كان يحكم بها لولا رؤيته وجهه ، فكان أدل على حقيقة الإنسان وأحكامه من غيره ، فاستعمل الوجه في الحقيقة في الإنسان ثم نقل إلى غيره من الأجسام ، ثم نقل إلى ما ليس بجسم ، يقال في الكلام هذا وجه حسن وهذا وجه ضعيف ، وقول من قال : إن الوجه من المواجهة كما هو المسطور في البعض من الكتب الفقهية ، فليس بشيء إذ الأمر على العكس ، لأن الفعل من المصدر والمصدر من الاسم الأصلي وإن كان بالنقل ، فالوجه أول ما وضع للعضو ثم استعمل واشتق منه غيره ، ويعرف ذلك العارف بالتصريف البارع في الأدب .
المسألة الثالثة : لو قال : ويبقى ربك أو الله أو غيره فحصلت الفائدة من غير وقوع في توهم ما هو ابتداع ، نقول : ما كان يقوم مقام الوجه لفظ آخر ولا وجه فيه إلا ما قاله الله تعالى ، وذلك لأن سائر الأسماء المعروفة لله تعالى أسماء الفاعل كالرب والخالق ، والله عند البعض بمعنى المعبود ، فلو قال : ويبقى ربك ربك ، وقولنا : ربك معنيان عند الاستعمال أحدهما أن يقال : شيء من كل ربك ، ثانيهما أن يقال : يبقى ربك مع أنه حالة البقاء ربك فيكون المربوب في ذلك الوقت ، وكذلك لو قال : يبقى الخالق والرازق وغيرهما .
المسألة الرابعة : ما الحكمة في لفظ الرب وإضافة الوجه إليه ، وقال في موضع آخر : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) [ البقرة : 115 ] وقال : ( يريدون وجه الله ) [ الروم : 38 ] ؟ نقول : المراد في الموضعين المذكورين هو العبادة . أما قوله : ( فثم وجه الله ) فظاهر لأن المذكور هناك الصلاة ، وأما قوله : ( يريدون وجه الله ) فالمذكور هو الزكاة ، قال تعالى من قبل : ( فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ) [ الروم : 38 ] ( ذلك خير للذين يريدون وجه الله ) ولفظ الله يدل على العبادة ، لأن الله هو المعبود ، والمذكور في هذا الموضع النعم التي بها تربية الإنسان فقال : ( وجه ربك ) .
المسألة الخامسة : الخطاب بقوله : ( ربك ) مع من ؟ نقول : الظاهر أنه مع كل أحد كأنه يقول : ويبقى وجه ربك أيها السامع ، ويحتمل أن يكون الخطاب مع محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن قيل : فكيف قال : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) خطابا مع الاثنين ، وقال : ( وجه ربك ) خطابا مع الواحد ؟ نقول : عند قوله : ( ويبقى وجه ربك ) وقعت الإشارة إلى فناء كل أحد ، وبقاء الله فقال ( وجه ربك ) أي أيها السامع ، والمخاطب كثيرا ما يخرج عن الإرادة في الكلام ، فإنك إذا قلت : لمن يشكو إليك من أهل موضع سأعاقب لأجلك كل من في ذلك الموضع . يخرج المخاطب عن الوعيد ، وإن كان من أهل الموضع فقال : ( فلا تلتفت إلى أحد غير الله تعالى ، فإن كل من عداه فان ويبقى وجه ربك ) ليعلم كل أحد أن غيره فان ، ولو قال : وجه ربكما لكان كل واحد يخرج نفسه ورفيقه المخاطب من الفناء ، فإن قلت : لو قال " ويبقى وجه الرب " من غير خطاب كان أدل على فناء الكل ؟ نقول : كأن الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف والإبقاء إشارة إلى القهر ، والموضع موضع بيان اللطف [ ص: 95 ] وتعديد النعم ، فلو قال : بلفظ الرب لم يدل عليه الخطاب ، وفي لفظ الرب عادة جارية وهي أنه لا يترك استعماله مع الإضافة . فالعبد يقول لي : ربنا اغفر لنا ، ورب اغفر لي ، والله تعالى يقول : ( ربكم ورب آبائكم ) [ الشعراء : 26 ] و ( رب العالمين ) [ الأنعام : 45 ] وحيث ترك الإضافة ذكره مع صفة أخرى من أوصاف اللفظ ، حيث قال تعالى : ( بلدة طيبة ورب غفور ) [ سبأ : 15 ] وقال تعالى : ( سلام قولا من رب رحيم ) [ يس : 58 ] ولفظ الرب يحتمل أن يكون مصدرا بمعنى التربية ، يقال : ربه يربه ربا مثل رباه يربيه ، ويحتمل أن يكون وصفا من الرب الذي هو مصدر بمعنى الراب كالطب للطبيب ، والسمع للحاسة ، والبخل للبخيل ، وأمثال ذلك لكن من باب فعل ، وعلى هذا فيكون كأنه فعل من باب فعل يفعل أي فعل الذي للغريزي كما يقال فيما إذا قلنا : فلان أعلم وأحكم ، فكان وصفا له من باب فعل اللازم ليخرج عن التعدي .
المسألة السادسة : ( الجلال ) إشارة إلى كل صفة من باب النفي ، كقولنا : ، ولهذا يقال : جل أن يكون محتاجا ، وجل أن يكون عاجزا ، والتحقيق فيه أن الجلال هو بمعنى العظمة غير أن العظمة أصلها في القوة ، والجلال في الفعل ، فهو عظيم لا يسعه عقل ضعيف ، فجل أن يسعه كل فرض معقول : ( الله ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض والإكرام ) إشارة إلى كل صفة هي من باب الإثبات ، كقولنا : حي قادر عالم ، وأما السميع والبصير فإنهما من باب الإثبات كذلك عند أهل السنة ، وعند المعتزلة من باب النفي ، وصفات باب النفي قبل صفات باب الإثبات عندنا ، لأنا أولا نجد الدليل وهو العالم فنقول : العالم محتاج إلى شيء وذلك الشيء ليس مثل العالم فليس بمحدث ولا محتاج ، ولا ممكن ، ثم نثبت له القدرة والعلم وغيرهما ، ومن هنا قال تعالى لعباده : ( لا إله إلا الله ) [ الصافات : 35 ] وقال صلى الله عليه وسلم : ونفي الإلهية عن غير الله ، نفي صفات غير الله عن الله ، فإنك إذا قلت : الجسم ليس بإله لزم منه قولك : الله ليس بجسم و ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله الجلال والإكرام ) وصفان مرتبان على أمرين سابقين ، فالجلال مرتب على فناء الغير والإكرام على بقائه تعالى ، فيبقى الفرد وقد عز أن يحد أمره بفناء من عداه وما عداه ، ويبقى وهو مكرم قادر عالم فيوجد بعد فنائهم من يريد . وقرئ : " ذو الجلال " ، و " ذي الجلال " . وسنذكر ما يتعلق به في تفسير آخر السورة إن شاء الله تعالى .