[ ص: 142 ]   ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين  في سدر مخضود  وطلح منضود    ) . 
ثم قال تعالى : ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين  في سدر مخضود  وطلح منضود    ) . 
لما بين حال السابقين شرع في شأن أصحاب الميمنة  من الأزواج الثلاثة ، وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : ما الفائدة في ذكرهم بلفظ : ( أصحاب الميمنة    ) عند ذكر الأقسام ، وبلفظ : ( وأصحاب اليمين    ) عند ذكر الإنعام ؟ نقول : الميمنة مفعلة إما بمعنى موضع اليمين كالمحكمة لموضع الحكم ، أي : الأرض التي فيها اليمين وإما بمعنى موضع اليمن كالمنارة موضع النار ، والمجمرة موضع الجمر ، فكيفما كان الميمنة فيها دلالة على الموضع ، لكن الأزواج الثلاثة في أول الأمر يتميز بعضهم عن بعض ، ويتفرقون لقوله تعالى : ( يومئذ يتفرقون    ) [ الروم : 14 ] وقال : ( يصدعون    ) فيتفرقون بالمكان فأشار في الأول إليهم بلفظ يدل على المكان ، ثم عند الثواب وقع تفرقهم بأمر مبهم لا يتشاركون فيه كالمكان ، فقال : ( وأصحاب اليمين    ) وفيه وجوه : 
أحدها : أصحاب اليمين الذين يأخذون بأيمانهم كتبهم . 
ثانيها : أصحاب القوة . 
ثالثها : أصحاب النور ، وقد تقدم بيانه . 
المسألة الثانية : ما الحكمة في قوله تعالى : ( في سدر    ) وأية نعمة تكون في كونهم في سدر ، والسدر من أشجار البوادي ، لا بمر ولا بحلو ولا بطيب ؟ نقول : فيه حكمة بالغة غفلت عنها الأوائل والأواخر ، واقتصروا في الجواب والتقريب أن الجنة  تمثل بما كان عند العرب عزيزا محمودا ، وهو صواب ولكنه غير فائق ، والفائق الرائق الذي هو بتفسير كلام الله لائق ، هو أن نقول : إنا قد بينا مرارا أن البليغ يذكر طرفي أمرين ، يتضمن ذكرهما الإشارة إلى جميع ما بينهما ، كما يقال : فلان ملك الشرق والغرب ، ويفهم منه أنه ملكهما وملك ما بينهما ، ويقال : فلان أرضى الصغير والكبير ، ويفهم منه أنه أرضى كل أحد إلى غير ذلك ، فنقول : لا خفاء في أن تزين المواضع التي يتفرج فيها بالأشجار ، وتلك الأشجار تارة يطلب منها نفس الورق والنظر إليه والاستظلال به ، وتارة يقصد إلى ثمارها ، وتارة يجمع بينهما ، لكن الأشجار أوراقها على أقسام كثيرة ، ويجمعها نوعان : أوراق صغار ، وأوراق كبار ، والسدر في غاية الصغر ، والطلح وهو شجر الموز في غاية الكبر ، فقوله تعالى : ( في سدر مخضود  وطلح منضود    ) إشارة إلى ما يكون ورقه في غاية الصغر من الأشجار ، وإلى ما يكون ورقه في غاية الكبر منها ، فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى أوراقها ، والورق أحد مقاصد الشجر ونظيره في الذكر ذكر النخل والرمان عند القصد إلى ذكر الثمار ؛ لأن بينهما غاية الخلاف كما بيناه في موضعه ، فوقعت الإشارة إليهما جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى ثمارها ، وكذلك قلنا في النخيل والأعناب ، فإن النخل من أعظم الأشجار المثمرة ، والكرم من أصغر الأشجار المثمرة ، وبينهما أشجار فوقعت الإشارة إليهما جامعة لسائر الأشجار ، وهذا جواب فائق وفقنا الله تعالى له . 
المسألة الثالثة : ما معنى المخضود ؟ نقول فيه وجهان : 
أحدهما : مأخوذ الشوك ، فإن شوك السدر يستقصف ورقها ، ولولاه لكان منتزه العرب ، ذلك لأنها تظل لكثرة أوراقها ودخول بعضها في بعض . 
وثانيهما : مخضود أي متعطف إلى أسفل ، فإن رءوس أغصان السدر في الدنيا تميل إلى فوق بخلاف أشجار الثمار ، فإن رءوسها تتدلى ، وحينئذ معناه أنه يخالف سدر الدنيا ، فإن لها ثمرا كثيرا . 
 [ ص: 143 ] المسألة الرابعة : ما الطلح ؟ نقول : الظاهر أنه شجر الموز ، وبه يتم ما ذكرنا من الفائدة روي أن عليا عليه السلام سمع من يقرأ : ( وطلح منضود    ) فقال : ما شأن الطلح ؟ إنما هو ( وطلع ) ، واستدل بقوله تعالى : ( لها طلع نضيد    ) [ ق : 10 ] فقالوا : في المصاحف كذلك ، فقال : لا تحول المصاحف ، فنقول : هذا دليل معجزة القرآن ، وغزارة علم علي رضي الله عنه    . أما المعجزة فلأن عليا كان من فصحاء العرب ولما سمع هذا حمله على الطلع واستمر عليه ، وما كان قد اتفق حرفه لمبادرة ذهنه إلى معنى ، ثم قال في نفسه : إن هذا الكلام في غاية الحسن ؛ لأنه تعالى ذكر الشجر المقصود منه الورق للاستظلال به ، والشجر المقصود منه الثمر للاستغلال به ، فذكر النوعين ، ثم إنه لما اطلع على حقيقة اللفظ علم أن الطلح في هذا الموضع أولى ، وهو أفصح من الكلام الذي ظنه في غاية الفصاحة فقال : المصحف بين لي أنه خير مما كان في ظني فالمصحف لا يحول . والذي يؤيد هذا أنه لو كان ( طلع ) لكان قوله تعالى : ( وفاكهة كثيرة    ) تكرار أحرف من غير فائدة ، وأما على الطلح فتظهر فائدة قوله تعالى : ( وفاكهة    ) وسنبينها إن شاء الله تعالى . 
المسألة الخامسة : ما المنضود ؟ فنقول : إما الورق وإما الثمر ، والظاهر أن المراد الورق ؛ لأن شجر الموز من أوله إلى أعلاه يكون ورقا بعد ورق ، وهو ينبت كشجر الحنطة ورقا بعد ورق وساقه يغلظ وترتفع أوراقه ، ويبقى بعضها دون بعض ، كما في القصب ، فموز الدنيا إذا ثبت كان بين القصب وبين بعضها فرجة ، وليس عليها ورق ، وموز الآخرة يكون ورقه متصلا بعضه ببعض فهو أكثر أوراقا  ، وقيل : المنضود المثمر ، فإن قيل : إذا كان الطلح شجرا فهو لا يكون منضودا وإنما يكون له ثمر منضود ، فكيف وصف به الطلح ؟ نقول : هو من باب " حسن الوجه " وصف بسبب اتصاف ما يتصل به ، يقال : زيد حسن الوجه ، وقد يترك الوجه ويقال : زيد حسن والمراد حسن الوجه ولا يترك إن أوهم فيصح أن يقال : زيد مضروب الغلام ، ولا يجوز ترك الغلام ؛ لأنه يوهم الخطأ ، وأما حسن الوجه فيجوز ترك الوجه . 
				
						
						
