( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور )
قوله تعالى : ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور )
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى بين بالدلائل كونه عالما بما يسرون وما يعلنون ، ثم ذكر بعده هذه الآية على سبيل التهديد ، ونظيره من قال لعبده الذي أساء إلى مولاه في السر : يا فلان أنا أعرف سرك وعلانيتك فاجلس في هذه الدار التي وهبتها منك ، كل هذا الخير الذي هيأته لك ولا تأمن تأديبي ، فإني إن شئت جعلت هذه الدار التي هي منزل أمنك ومركز سلامتك منشأ للآفات التي تتحير فيها ومنبعا للمحن التي تهلك بسببها ، فكذا ههنا ، كأنه تعالى قال : أيها الكفار اعلموا أني عالم بسركم وجهركم ، فكونوا خائفين مني محترزين من عقابي ، فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها ، وتعتقدون أنها أبعد الأشياء عن الإضرار بكم ، أنا الذي ذللتها إليكم وجعلتها سببا لنفعكم ، فامشوا في مناكبها ، فإنني إن شئت خسفت بكم هذه الأرض ، وأنزلت عليها من السماء أنواع المحن ، فهذا هو الوجه في اتصال هذه الآية بما قبلها .
المسألة الثانية : الذلول من كل شيء : المنقاد الذي يذل لك ، ومصدره الذل ، وهو الانقياد واللين ، ومنه يقال : دابة ذلول ، وفي وصف الأرض بالذلول أقوال :
أحدها : أنه تعالى ما جعلها صخرية خشنة بحيث يمتنع المشي عليها ، كما يمتنع المشي على وجوه الصخرة الخشنة .
وثانيها : أنه تعالى جعلها لينة بحيث يمكن حفرها ، وبناء الأبنية منها كما يراد ، ولو كانت حجرية صلبة لتعذر ذلك .
وثالثها : أنها لو كانت حجرية ، أو [ ص: 61 ] كانت مثل الذهب أو الحديد ، لكانت تسخن جدا في الصيف ، وكانت تبرد جدا في الشتاء ، ولكانت الزراعة فيها ممتنعة ، والغراسة فيها متعذرة ، ولما كانت كفاتا للأموات والأحياء .
ورابعها : أنه تعالى سخرها لنا بأن أمسكها في جو الهواء ، ولو كانت متحركة على الاستقامة ، أو على الاستدارة لم تكن منقادة لنا .
المسألة الثالثة : قوله : ( فامشوا في مناكبها ) أمر إباحة ، وكذا القول في قوله : ( وكلوا من رزقه ) .
المسألة الرابعة : ذكروا في مناكب الأرض وجوها :
أحدها : قال صاحب "الكشاف" : المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ؛ لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير ، وأبعده من إمكان المشي عليه ، فإذا صار البعير بحيث يمكن المشي على منكبه ، فقد صار نهاية في الانقياد والطاعة ، فثبت أن قوله : ( فامشوا في مناكبها ) كناية عن كونها نهاية في الذلولية .
وثانيها : قول قتادة والضحاك : إن مناكب الأرض جبالها وآكامها ، وسميت الجبال مناكب ؛ لأن مناكب الإنسان شاخصة والجبال أيضا شاخصة ، والمعنى أني سهلت عليكم المشي في مناكبها ، وهي أبعد أجزائها عن التذليل ، فكيف الحال في سائر أجزائها . وابن عباس
وثالثها : أن مناكبها هي الطرق ، والفجاج والأطراف والجوانب ، وهو قول الحسن ومجاهد والكلبي ومقاتل ، ورواية عطاء عن ، واختيار ابن عباس الفراء ، ، قال : مناكبها جوانبها ، ومنكبا الرجل جانباه ، وهو كقوله تعالى : ( وابن قتيبة والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا ) ( نوح : 19 ، 20 ) أما قوله : ( وكلوا من رزقه ) أي مما خلقه الله رزقا لكم في الأرض : ( وإليه النشور ) يعني ينبغي أن يكون مكثكم في الأرض وأكلكم من رزق الله مكث من يعلم أن مرجعه إلى الله ، وأكل من يتيقن أن مصيره إلى الله ، والمراد تحذيرهم عن الكفر والمعاصي في السر والجهر ، ثم إنه تعالى بين أن بقاءهم مع هذه السلامة في الأرض إنما كان بفضل الله ورحمته ، وأنه لو شاء لقلب الأمر عليهم ، ولأمطر عليهم من سحاب القهر مطر الآفات .