( يومئذ تعرضون ) .
قوله تعالى : ( يومئذ تعرضون ) العرض عبارة عن المحاسبة والمساءلة ، شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرف أحواله ، ونظيره قوله : ( وعرضوا على ربك صفا ) [الكهف : 48] وروي ، فأما عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ ، وأما الثالثة ففيها تنثر الكتب فيأخذ السعيد كتابه بيمينه, والهالك كتابه بشماله" في القيامة ثلاث عرضات . " أن
( لا تخفى منكم خافية فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه ) .
ثم قال : ( لا تخفى منكم خافية ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الآية وجهان :
الأول : تقرير الآية : تعرضون لا يخفى أمركم فإنه عالم بكل شيء ، ولا يخفى عليه منكم خافية ، ونظيره قوله : ( لا يخفى على الله منهم شيء ) [غافر : 16] فيكون الغرض منه المبالغة في التهديد ، يعني تعرضون على من لا يخفى عليه شيء أصلا .
الوجه الثاني : المراد منكم في الدنيا ، فإنه تظهر لا يخفى يوم القيامة ما كان مخفيا فيتكامل بذلك سرورهم ، وتظهر أحوال المؤمنين ؛ فيظهر بذلك حزنهم وفضيحتهم ، وهو المراد من قوله : ( أحوال أهل العذاب يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر ) [الطارق : 9] وفي هذا أعظم الزجر والوعيد وهو خوف الفضيحة .
المسألة الثانية : قراءة العامة " لا تخفى " بالتاء المنقطة من فوقها ، واختار أبو عبيدة الياء وهي قراءة حمزة والكسائي قال : لأن الياء تجوز للذكر والأنثى, والتاء لا تجوز إلا للأنثى ، وههنا يجوز إسناد الفعل إلى المذكر وهو أن يكون المراد بالخافية شيء ذو خفاء . وأيضا فقد وقع الفصل ههنا بين الاسم والفعل بقوله : منكم .
واعلم أنه تعالى لما ذكر ما ينتهي هذا العرض إليه قال : ( فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : هاء صوت يصوت به ، فيفهم منه معنى خذ كأف وحس ، وقال : وفيه لغات وأجودها ما حكاه أبو القاسم الزجاجي عن العرب فقال : ومما يؤمر به من المبينات قولهم : هاء يا فتى ، ومعناه تناول, ويفتحون الهمزة ويجعلون فتحها علم المذكر, كما قالوا : هاك يا فتى ، فتجعل فتحة الكاف علامة المذكر [ ص: 98 ] ويقال للاثنين : هاؤما ، وللجمع هاؤما ، وهاؤم ، والميم في هذا الموضع كالميم في أنتما وأنتم وهذه الضمة التي تولدت في همزة هاؤم إنما هي ضمة ميم الجمع ؛ لأن الأصل فيه هاؤموا وأنتموا, فأشبعوا الضمة وحكموا للاثنين بحكم الجمع ؛ لأن الاثنين عندهم في حكم الجمع في كثير من الأحكام . سيبويه
المسألة الثانية : إذا اجتمع عاملان على معمول واحد ، فإعمال الأقرب جائز بالاتفاق, وإعمال الأبعد هل يجوز أم لا ؟ ذهب الكوفيون إلى جوازه والبصريون منعوه ، واحتج البصريون على قولهم بهذه الآية ؛ لأن قوله : ( هاؤم ) ناصب ، وقوله : ( اقرءوا ) ناصب أيضا ، فلو كان الناصب هو الأبعد ، لكان التقدير : هاؤم كتابيه ، فكان يجب أن يقول : اقرءوه ، ونظيره : ( آتوني أفرغ عليه قطرا ) [الكهف : 96] واعلم أن هذه الحجة ضعيفة ؛ لأن هذه الآية دلت على أن الواقع ههنا إعمال الأقرب, وذلك لا نزاع فيه إنما النزاع في أنه هل يجوز إعمال الأبعد أم لا ، وليس في الآية تعرض لذلك ، وأيضا قد يحذف الضمير ؛ لأن ظهوره يغني عن التصريح به كما في قوله : ( والذاكرين الله كثيرا والذاكرات ) [الأحزاب : 35] فلم لا يجوز أن يكون ههنا كذلك ؟ ثم احتج الكوفيون بأن العامل الأول متقدم في الوجود على العامل الثاني ، والعامل الأول حين وجد اقتضى معمولا ؛ لامتناع حصول العلة دون المعمول ، فصيرورة المعمول معمولا للعامل الأول متقدم على وجود العامل الثاني ، والعامل الثاني إنما وجد بعد أن صار معمولا للعامل الأول , فيستحيل أن يصير أيضا معمولا للعامل الثاني ؛ لامتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين ، ولامتناع تعليل ما وجد قبل بما يوجد بعد ، وهذه المسألة من لطائف النحو .
المسألة الثالثة : الهاء للسكت في " كتابيه " وكذا في "حسابيه ، وماليه ، وسلطانيه " وحق هذه الهاءات أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل ، ولما كانت هذه الهاءات مثبتة في المصحف والمثبتة في المصحف لا بد وأن تكون مثبتة في اللفظ ، ولم يحسن إثباتها في اللفظ إلا عند الوقف ، لا جرم استحبوا الوقف لهذا السبب . وتجاسر بعضهم فأسقط هذه الهاءات عند الوصل ، وقرأ ابن محيصن بإسكان الياء بغيرها . وقرأ جماعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف جميعا لاتباع المصحف .
المسألة الرابعة : اعلم أنه لما أوتي كتابه بيمينه ، ثم إنه يقول : ( هاؤم اقرءوا كتابيه ) دل ذلك على أنه بلغ الغاية في السرور ؛ لأنه ومن الفائزين بالنعيم ، فأحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا بما ناله . وقيل : يقول ذلك لأهل بيته وقرابته . لما أعطي كتابه بيمينه علم أنه من الناجين